منبر حر لكل اليمنيين

*فصل برزخ سهيل وتاج الثريا

29

1- برزخ سهيل

استحلفني برقٌ أن أنهضَ من بين شاراته، فألغيتُ مواعيدي، وأتيتُ، قلتُ: هذا يومي بستة أيامٍ مما يَعِدَّون. اصعدْ إلى بروج خيلاتك وناولني أعنّتها، ثم أطبقْ جفنيكْ واقعد كي ترى..

عتمةٌ كان البدءُ، قال قائلٌ: نخلةٌ واحدةٌ واحدةٌ لا تكفي لأبط سعف كل هذا السواد: اذهبْ يا برق وجمّعهْ في سقف واحةٍ. او اذهبْ.. واستطلْ في مراثيهم، واخرج إلى العراء مبدداً باسم كل قبيلة.

كان يوماً بستة أيام مما يعدّون. لا خلاءَ فيه ولا امتلاءْ. وأنا بين البياض وبين البياضْ. طلعٌ لشجرة نخلٍ. تطفحُ بقبيلةٍ متراصة من الأهلة والزنابق. في كل هلال سنبلةٌ. وفي كل زنبقة ترسٌ لنصب خيمةٍ مكسوةٍ بسبعة فرسان مدججين بأبهة الحنطة… وبهاء الياسمين.

العتمةُ كثبان تتلاطمُ بعضها فوق بعض. رملٌ يقبض بتلابيب الرَّمل، فيؤاخي بين اليباب وبين اليباب في جمجمة نسب واحد.

قلتُ: افتقُ حيثما تهوي عصاتي، وتتخلق أشجار شهبي على مائدة هذا الهباء.

أشرعتُ بيارقي ويمّمتُ مسرايَ في حشدٍ وقافية. إذن بدأتُ.

فلأطلق العنان للنرجس كيما يتفتح، ويخاطبني بأسمائي. ولأبلغنّ نهاية ما لا أرى، وأحتطبُ في طريقي كل ما أرى. ولأهزجنّ إذا أتيتُ:

(لقد آنَ زفافُ قطافي. واللّه لأقيمنّ مآدبَ الإفكِ على خشبة كل لسان، ولأتركنَّ كلَ عين تلهج بما أرى.. فينعي الأسودُ الأسودَ، ويدخلُ الصفار في حدقةِ الشفق، ويتزي بخضاب حنّائه).

قال قائلٌ: لا يكسرُ الحجرَ إلا الماءْ. ما زالت العتمةُ تتفيأ مداد السواد. وما زال الرمادُ يطلي أعناق المواقد بالرمادْ، حتى إذا انقشع عن هدبي كتابُ البحر، لم أر على سطحهِ حوذياً.. ولا مركباً… ورأيتُ الموج يستفُ الماءَ من السطح إلى القاع، ويخرج من بين يدي مُزَيناً بقبة الصواعق.

* * *

كيف تقولُ إذا شققت جدولاً؟ أقول: هذا المقلاع.

وإذا حوّمتَ في فراشة النرجس؟ أقول أشهد أنني أقيم صِلاتِ الرحم. وإذا أتمَّ نعمتَهُ عليكَ، وأجلسك في حافة عين الينبوع؟ قلتُ: أهلّلْ، وأقولُ انتصب في الساقِ المعراجِ، وأبدأ بالهبوب.. ثم آخذُ المقلاعَ وأحوّمُ، وأهوي على رأس الحجر..

دخلتُ. قال قائلٌ: هذا يوم بستة أيام مما يعدّون. لا قانتٌ ولا قائظٌ ولا ذلولْ. كان ثمةُ أسماءٌ، مبعثرةٌ ما بين الفم واللسان، وسدّة العنقِ، وكنتُ أنتظر من يقيم أودي، ويؤالفها في كلمةٍ واحدة.

قلتُ: كنتُ أغضُ الطرفَ، وانتهر النساءَ من الفضول، ولكنني إذا أخبَتُ في طوالع سريرتي، قعدتُ أستملحُ ماء أصواتهنّ، واستحثّهن أن يشققن صدورهنّ بصنوج الغناء، ويرتَقَبْنَ مطلع بدري.

ها أنا أخبتُ في مطالعي. اجتاز الصراط الفاصل بين عنق النرجسة وفضاء قبّتها. أطفو في دفق النسغ فلا أرى من يميني أحداً، ولا أرى في شمالي أحداً، والتفتُ يُمنةً فأرى كومة سواد. وألتفتُ يُسرةً فأقبضُ كومة سواد، وأقشعرُّ إذ أدنو إلى عتبة القبة.

المسافة بين عنق (سهيل) وتيجان (الثريا) سنةُ نواحٍ بالتمام.

كل يومٍ بمائة سنة عتمةٍ مما يعدّون. وكلُ شهر بما لا أحصيه من هراوتهم وقبضات نؤى نخلهم المالح المستطير.

قشعريرةٌ تدكُّ مداميكي فيدخل لحمي في أنابيب عظمي، ويتهطلُّ من دمي أنهارٌ من الحمّى، تشبه في ملاحتها سحبَ حشرٍ مروّع.. باهظٍ وأليف. وأكادُ أهتفُ: ياعذاب الفتى زيّنْ افتتان الفتى بالعتو وصلافة الهندوانْ. وأكادُ أهتف: يا مضايقّ طلح “كهلان” أقيمي أعوادك على عرقِ الحمّى المتهدّلة من كواهلي.

هذه وليمةٌ أقيمُ زينتها من أعراس دمي. فمي قاسمَ الطلح أبوّته في أنسابِ العشيرة. وأنا مستظل في أسنّتي ومرايايَ. اخرجنَ ياعذارى (كهلان) من أعراق الطلح، ودثرنني من قيظ هذا العراء المستتبّ ما بين أقدامي وخطاي.

هذا يومٌ بمائة ألف سنة مما يعدّون. لا كالحٌ ولا متربٌ ولا لجوجْ. أرى أسمائي تفرُّ من أسمائي، ويطبقُ عليها الرمل تحت إليتيه. كل اسمٍ ضريحٌ لخيمةٍ تقطنها أمَةٌ من القطعان وأحجار السائمة. كلُ ضريحٍ، يدان لساعدين يمسكان مِخْيَط الدم، ويغزل وبر الجفاف المسافر بين قضيب الوتد ورحم الخيمة. وأنا برقٌ يتلظّى بنيازكه، ويحرقُ ـ أول ما يحرق ـ ربما ـ قبل الوصول، أو بعد الوصول، بتويجة الزهر.

ذاهلٌ والطريقُ يدخلُ في خطواتي ولا يتبعني. ذاهلٌ والطريقُ أحطابُ مرايا، تحدّقُ في أختامي ولاتراني. قال البحرُ: لو كنتُ مداداً لكلمات لا تُقرأ، لنفدتُ قبل أن أجتاز بوابة العنق، وقبل أن أنفذ إلى بهو التاج.

قلتُ: استوطنني حلمي بالغفرانْ، لأبلغنّ نهاية ما لا أرى، وليحتطبنني في الطريق أضغاثُ ما أرى. ولأهزجنّ إذا انتهيتُ إلى آخر القُمع:

(لقد آن زفاف البحر للحجارة، ولتدخلنّ كل نفس في حشرجتها، وتنظر، من بعدُ، كيف يُطمر في اليباس زهرُ الطوفانْ).

كأنني على موعدٍ لرعي إبل سائمة. إذنْ دعوني أطبقْ على صخرة هذا الفضاء من الجذع إلى العنق، وأنحتُ في نتوءاته: قنفذاً. ودعوني ـ ثانية ـ لأتراجع خطوتين، وآخذ أنظر في هيئة خلقه. فإن رأيته يزهو، سأقول: هذه خمركم رُدت إليكم. واسطعوا من أفلاك دمامته كأنكم بعوضٌ، أوأقمارٌ، واثنوني في أمري، وإن رأيتموني أجْلَعُ أشواكه في المنتصف، فاسكتوا عن الذي أنتم فيه، وقولوا: ليس هذا خمراً، وليس هذا أمراً، وإن انتهيتُ إلى القعر، ورأيتموني أخرجه إليكم، أقرعَ، كأنه بيض الغراب، فغضوا الطرف عن النساء المتبرجات في أغلال الحداد، وانتهروا ما رسَبَ في أجوافكم من نؤى الملح وبقل الفضول. ولن تُؤاخذ نفسٌ سوى بما في إنائها. والله لو خُلعَتْ حجارة (سد مأرب) طوبةً طوبةً، ومَشَتْ إليَّ في أسراب (نوق العصافير) تملأ هذا الفضاء المائل، من بين يدي إلى نهاية الفضاء الماثل، خلف شهواتي، ولو عادوا وزينوها لي بالبهار وبالطِيبِ وبروائح العرفج، لما تراجعت مثقال طلقةٍ.. أو فلسٍ.

ولهتفتُ حتى تسمعني النوقُ النائخاتُ في شعابِ (الأناضول) بأن الحجر حجرٌ، ولو طلوه بصندل كلْسِ العظام.

قال قائلٌ: استودعتُ كنانتي بطوفان من حراب الأسماء. وثقفته، وألنتُ ملمسها، حتى صارت غضةً وعذبةً كالشهاب البارد، وانتقيتُ من أفصحها أطيب الكلمات، وأصفاها فضةً، ثم لوّحتُ ببرقها في الأعالي ثلاثاً، وأطلقتُها في الصخر أروّع بها البعرَ الآمن. وها كلمتي تذهب مفيّحةً في القرارةِ. ترعش قرارة الحجر.

أستدل على النبع من لفح الظمأ المتطاير من قرارته. أمشي من يميني بحرٌ يفتقُ من قوقعةٍ، وفي شمالي بحرٌ يفتقُ من قوقعةٍ.

أضم البحرين في ميزاب واحد، وأرى البحرين يكبران، ويصبحان لؤلؤة بحجم جذع نخلة.

أضيء شمس اللؤلؤة، فتنقشع سحابة العتمة من حولي، وأراني اجتزت بهو الساق تماماً، ونفذتُ إلى فضاء لا نهاية له. قالت عصفورة الساق: أنت في أول الأرض. هذا فضاء قبة النرجس. أدخل وأنقش أزهار التماعك في سقفه، وأرني كيف تطلي في مداد السواد شجرة (الثريا).

دخلتُ، نهض في منتصف الخطوة الأولى لخطوي، محرابٌ، صافحني وخررت راكعاً. قلتُ: أقيم في البدء، صلاة حضوري على أعتابه، ثم أطوّف في ثنيات التويجة، وأرى كيف تبدأ من بذرتي شجرة الجهات الخمس.. على الأرض. مهّدتُ قِبلتي

وضممتُ يدي، وشرعت أصلي.
*من ديوان زفاف الحجارة للبحر.

تعليقات