مصحف أحمر: وعي كوني بتاريخ الهويات اليمنية
يخطر في بالي عندما نتكلم عن الرواية، مقولة هنري جميس” الروائي لا يوفر شيئاً أبداً”، ذلك أن الحدس الروحي الذي يتجسّد في عين الروائي هو ما يجعل من الروائي فناناً مبدعاً، وهذا الحدس هو ما يميّز عملاً روائياً عن آخر، فشرارة الإبداع تكمن في تساؤل المبدع عن صناعة الماضي، كيف صُنع التاريخ وكيف وصلنا إلى مفارقات الواقع وماذا سيصنع الغدُ من هذا الواقع؟
الرواية العربية وسؤال الوعي:
لم تكن الرواية العربية في بداياتها قائمة على الحدس والوعي بقدر ما كانت تحاول إثبات هويتها كجنس أدبي جديد، ثم جاءت بعد ذلك محاكاة الواقع ونقل معاناة الناس من خلال تجسيدها في شخصيات روائية،نذكر من الأعمال التي صوّرت الطبقات الاجتماعية، ـ”المصابيح الزرق1954م” لحنّا مينة،و”خان الخليلي 1966م”، و”زقاق المدق1947م” لنجيب محفوظ.
بعد ذلك مضت الرواية العربية باتجاه الواقعية التقدمية، وبدأت الأعمال في هذه الفترة تعي عدداً من المفهومات الفكريّة،وتسعىإلى تحرير الإنسان من قهره ومساعدته على تحقيق آماله ونشر الوعي السياسي، ليقدر على التحرّك والانضمام للأحزابالسياسية،في هذه المرحلة انتقل المثقف العربي إلى الكتابة عن العلاقة بين الشعب والسلطة، تلك السلطة التي رسمت مع جماهيرها أوهام الوحدة والحرية والاشتراكية. ومالبث أن بدأ المثقف يشعر في حدسه بأنها قيم شعاراتية مستعارة حاول الوعي العربي تقمّصها في السياسة والثقافة والإيديولوجيا، عبر ما يقارب أربعة عقود، لكنها بقيت عقيمة خاصّة على المستوى الثقافي، مما خلق أزمة كتابة تعود إلى التناقض بين وعي السلطة ووعي الشعب. وكانت هذه الأزمة بداية التحول والانتقال إلى مرحلة كتابة الرواية الجديدة.
د. أماني العاقل
التحولات المعرفية في نص الرواية الجديدة:
تبنّت الرواية الجديدة المرجعيات المعرفية لتهرب من تناقضات الواقع العربي نحو فضاء مسكون بالفلسفة والمعرفة والخيال، فوجّهت أبطالها إلى إحياء ثقافة يحمونها وتحميهم، وغالباً ما ظهرت هذه الثقافة في نموذج أو تراث أو جماعة أو مرجعية مستقرة، فبدأت العودة إلى النسق العرفاني الكامن في المقولات الصوفية، والنسق المعرفي في الأسطورة، والمقولات الكونية التي تتبنى كل الأديان والأثنيات في رؤية واحدة، وظهر عدد من الروائيين العرب الذين تبنّوا هذه الرؤيا الكونية المتسامحة مثل أعمال الروائي المغربي عبد الإله بنعرفة، نذكر منها (بحر نون2007، بلاد صاد2009م)، رواية (عين الهر2006م) لشهلا العجيلي من سورية، رواية (هذا الأندلسي 2007م) للمغربي بنسالم حميش، رواية (نون2008م) لسحر الموجي من مصر، رواية (مصحف أحمر2009م) للغربي عمران من اليمن، رواية ( اليهودي الحالي2009م ) لليمني علي المقري، رواية (باب الحيرة 2006م، وأبناء السماء 2010م) ليحيى القيسي من الأردن، رواية (مدائن نون) للروائي المصري سعيد العلام، سنة 2010م، رواية (شجرة العابد) للمصري عمّار علي حسن.
مصحف أحمر للغربي عمران نموذجاً:
فيما يلي نقدّم لمحة عن الوعي الكوني لتاريخ الهويات والإثنيات في اليمن كما تجلى في رواية (مصحف أحمر) للروائي اليمني الغربي عمران.
لقد وظّف نص (مصحف أحمر) لحظات التحولات الثقافية الهجينة في تاريخ اليمن لبناء نص أدبي قائم على مفارقات تلك اللحظات.إذ يؤصّل النص لذاكرة سردية تجمع بين الديني والثقافيوالإيديولوجي والسياسي في أزمة الانتماء الثقافي لـ”حنظلة” الذي يملؤه شغف معرفة مبادئ الأفكارالشيوعية والاشتراكية الوافدة من جهة، وهاجس إيجاد مصحف جدّه الأحمر الذي يجمع ثلاثة كتب سماوية، الجزء الأقدم منه للتوراة الذي تعود بدايته إلى الجد الأول، والجزء الثاني للإنجيل بالحروف السريانية و الجزء الثالث كتاب القرآن الكريم.
ثلاث ثيمات ثقافية تشير إلى المعرفة الإنسانية البكر قبل أن تُدنّس بنفوس البشر، فالتوراة بنسخته القديمة، والإنجيل سرياني و القرآن غير منطوق، كتاب جمع ثلاث تجليات لإله واحد، سكن بعض عباده أرض اليمنفدنّسوها بحب الامتلاك وأنانية التعامل مع الحقيقة،خطفوا جدّ حنظلة واتهموه بتحريف تعاليم الإسلام، ثم عثر على مصحفه الأحمر ملطخا بقطرات دم جافة ومداد أسود، وقد مُزّق منه العهد القديم وبعض صفحات الإنجيل.
يتساءل النّص عن سؤال يتلخّص بقولنا: هل يمكن عدّ التطلعات الكونية السامية التي تجمع كلّ الأديان في بوتقة الإنسانية رؤيا إنسان ما بعد الاستغلال في مجتمع يغلب عليه طابع القبلية والعشائرية ؟ أي هل يغلب الشمولي والكوني على الخصوصي والنّسقي؟
لقد كُرّست صفة الكونية بتوجهاتها السامية وتطلعاتها لمجتمع يشمل كلّ الأديان في نموذج مصحف الجد عطوه، وهو مصحف تعود ذاكرته التاريخية، كما تروي( سمبرية)، إلى لعنة حلّت بجد العائلة في فترة ما قبل الإسلام، إذ يُروى أنه كان يهودياً وأمر بإحراق كل من تمسّك بتعاليم المسيحية، فحلّت على ذريته لعنة ألا ينجبوا إلا ذكراً واحداً، ثم تنبأ أحد العرّافين بزوال هذه اللعنة إذا جمعت الكتب السماوية بنسختها الأولى في مصحف واحد، فاستمر الأجداد في البحث حتى جمعوا المصحف في كتاب واحد بقي الجدّ عطوي يحمله معه أينما ذهب.ولا يتنازل الجدّ عطوي عن مبادئ مصحفه الذي جمع الأديان السماوية والأرضية كالبوذية والمانوية والزرادشتيه، إذ كان يؤمن بالحكمة التي تجمع بين المدائن في الأرض، وبرأيه ينبغي للمؤمن الحقيقي أن يبحث عنها، ولذلك لم يجد ضيراً في جمعها في كتاب واحد يحمله أينما ذهب، مما أثار الشبهات حوله فأمر مجلس أمن الدولة أن يقام له جلسة استتابة يعلن فيها توبته من كفره وتدليسه، وبذلك يكون “المصحف الأحمر”رمزاً لليمن الذي جمعت أرضه مختلف الحضارات والأعراق، لكن مزّقته أيادي الشيخ المتشدد ورجل السلطة وشيخ العشيرة، فلم تبق إلا على لون واحد .
الايديولوجيا واليوتوبيا:
يعرض النص حكاية الصراعات السياسية في فترة ثورة 26 أيلول سنة 1962م و الحرب الأهلية التي قامت في تلك المرحلة بسبب الصراع من أجل استمرار الحكم الملكي وإحباط محاولة قيام الحكم الجمهوري.فينتقل السارد (سمبرية) إلى حقبة سابقة لتروي لابنها (حنظلة) حكاية جدّه عطوي الذي ناضل ضد الاستعمار، وهو يحمل مصحفه.
تحضر في النص أنساق سياسية وتاريخية تتصل بالأيديولوجيا والتحولات السياسية، وأنساق فلسفية تتصل بالتسامح الديني بمفهومه الكوني والطوباوي. وتتبلور آلية التراسل المعرفي بينهما، من خلال ما تقدّمه التطلعات الكونية من رؤى واسعة تهدف إلى الخلاص من الواقع الاستغلالي الذي يمارسه أفراد السلطة على الشعوب ويمكن تحديد ثلاثة محاور رئيسة في النص تستدعي الحديث عن علاقة الايديولوجيا بالتطّلعات الطوباوية والرؤى السامية:
النقطة الأولى رصد الذاكرة السياسية لليمن من خلال الذاكرة الفردية للأم سمبرية” التي تروي تاريخ العائلة لابنها .
النقطة الثانية الإشارات الدينية إلى تعددية الأنساق الدينية في مجتمع اليمن القديم وما آلت إليه الأحوال من محاولات تفردّ بعض الأصوليات الإسلامية التي لا تمثل رؤيا الإسلام المتسامحة.
النقطة الثالثة الانتصار للرؤى الطوباية من خلال الحلم باليمن المتصالح مع ذاكراته الثقافية.
يحاول الخطاب الروائي في “مصحف أحمر” البحث عن مكان ليمن واعٍلهويته الثقافية الأصيلة ولذاكرته التاريخية، وبذات الوقت يبحث عن تطلّعات تفوق انكسارات الايديولوجيا التي ناضلت من أجلها سمبرية، وفقدت في سبيلها زوجها تبعة وجاء ابنها حنظلة ليكمل الطريق في التصدي للغزو الأمريكي في العراق.
-” انتهى كل شيء، لم يعد من أصحاب مبادئ، فقط بقايا انتهازيين وطفيليين يتشدّقون بالمبادئ الاشتراكية”.
إن الخلاص الطوباوي الذي يبحث عنه النّص هو خلاص زمني ينبع من إدراك الهوية الثقافية منذ نشوئها، وهذا الخلاص تُعززه الحاجة إلى رؤيا كونية سامية تضع حدّاً لمشاهدات التطرف الإسلامي الذي شهدته مرحلة تسعينيات القرن الماضي، ولردم هوّة الانكسار بين الواقع والمثالية الشعاراتية التي خلفتها الثورة.
*باحثة أكاديمية من جامعة حلب – سورية.