نصف قرن على رحيل محمد عبدالولي
الرائد السردي وقبره الذي في السماء!
في زيارتها الأخيرة لليمن، أوائل تسعينيات القرن الماضي، مع ابنتها فاطمة، تمنّت السويدية “برجيتا هولندير” أن تجد قبرًا أو حتى نصبًا صغيرًا لزوجها محمد أحمد عبدالولي، لتستطيع وضع وردة عليه. فقد قضى محمد عبدالولي في الثلاثين من أبريل 1973، حين تلاشى جسده بين شبوة وحضرموت في حادثة طائرة الدبلوماسيين الشهيرة، بعد أسابيع قليلة من مغادرته تعز إلى عدن للبحث عن حلم كبير في جنة الاشتراكية وقتئذٍ، لكنه لم يجد حتى موضعًا لرفاته فيها.
في دراسة، عنوانها “الهجرة والمهاجرون في أدب اليمن المعاصر”، خصص الكاتب حيزًا لتجربة محمد عبدالولي، تحت عنوان “من التمزق الهوياتي إلى الريادة الفنية”، وممّا جاء فيها:
أصدر محمد أحمد عبدالولي أولى مجاميعه القصصية (الأرض يا سلمى) في العام 1966م، وكانت تجربته في كتابة القصة بالكاد تُكمل عقدها الأول، إذ أرَّخ للنص الأول فيها “امرأة” بالعام 1958م، غير أنّها كانت قد قفزت، بهذا الشكل الجديد، أو بكتابة القصة القصيرة في اليمن إلى لحظة (جمالية) متقدمة جدًّا، وعلى يديه انتقلت فجأة من ذلك المجال الضيق إلى الميدان العالمي للقصة، وتحس بالفرق واضحًا بين الأسلوب القصصي عند غيره وبين القصة ذات الأريج المميز عنده، فلم يكتب القصة صدى لأفكار الآخرين، أو انعكاسًا لأفكار شائعة، بل كان يكتبها من مواقع المعاناة الشخصية، كما يذهب إلى ذلك عبدالحميد إبراهيم في كتابه (القصة اليمنية المعاصرة).
لم تعد القصة عنده محصورة في طبيعة الوعظ والتقرير والحكمية، ولم تعد المدينة بإسمنتها وعلاقاتها المعقدة (الزائفة)، ولا التصنع الذهني والمثالي، مسرحًا لموضوعاتها، بل بدأت تبحث عن تحققاتها في فضاء القرية والهامش، وفي موضوع الإنسان المهاجر ويومياته، وفي مشكلة (اندماج) المولدين، وفي قضايا المسكوت عنه مثل “الجنس والسياسة”، التي لم تطرق بذات الكيفية والتوظيف الجمالي وأبعاده الرمزية.
افتتح عقد الستينيات بكل صخبه شمالًا وجنوبًا مثل كتاب آخرين، غير أنّه استطاع وبأسلوبه المميز ووعيه الحادّ تمهيد الأرضية الأكثر تماسكًا ووضوحًا لقصّاصين جعلوا من عقد الستينيات ذاته وعقد السبعينيات “زمنًا” للتمرد الكتابي، ليس فقط في طبيعة التقنية الكتابية، بل في الأفكار والمعالجات، إذ بدأت القصة في معاينة الأشياء وتحليلها وتفكيك آلياتها، وغدا المتخيل السردي في القص جزءًا من ظاهرة الكتابة ذاتها، وليس وسيلة لإسقاط الأفكار أو “مجرد أسلوب لخدمة مقالة أو بحث أو فكرة”، حسب إبراهيم أيضًا.
القصة اليمنية شهدت في حياته “ازدهارًا لم يسبق له مثيل. ويعود الفضل في ذلك إلى تنوع تجربته وثقافته وموهبته الفنية التي صقلها بدراسة فن القصة. ولم يعتمد على جهده الفردي الذي اكتسبه من القراءة المتواصلة، وإنما تابع أثناء دراسته في مصر كلَّ الندوات والمحاضرات، ودرس في معهد جوركي للآداب مدة عامين”. كما يقول عمر الجاوي، في تقديمه لديوان غريب على الطريق.
“تبدو خطوة محمد عبدالولي وتجربته الروائية هي الأكثر قدرة وتمكنًا في هذه المرحلة لما يمتلكه هذا القاصّ من أدوات خاصة وموهبة حقيقية جعلته يعالج موضوعًا اجتماعيًّا في غاية الخطورة في حياة اليمني، هو موضوع الهجرة والمولدين -الذين يكونون من أب يمني وأم حبشية تحديدًا- في روايته «يموتون غرباء” 1971م، ويقدم روايته في شكل فني محكم ورصين، يمثل بالفعل الشكل والمستوى الأكثر نضجًا وتأسيسًا للخطاب الروائي في هذه المرحلة”، كما يقول د. إبراهيم أبو طالب في موضوعه الخطاب الروائي (المسيرة والمضمون).
تكوينه الثقافي و”عبقريته الإبداعية تجلَّت أكثر ما تجلَّت في المعالجة الفنية لجملة من القضايا الاجتماعية، مثل قضية الهجرة وما نتج عنها من قضايا إشكالية، من قبيل قضايا الوجود”. كما تقول د. آمنة يوسف في (الرؤى السردية في قصص محمد عبدالولي).
محمد عبدالولي يمثّل ظاهرة فريدة، “فهو أشبه بالنبتة العجيبة التي شقَّت طريقها وسط ركامٍ من الصخور الصلدة، تكتنفها من كل جوانبها صحراء جرداء”. كما يقول د. طه حسين الحضرمي في (الإضاءة والعتمة- قراءة في استراتيجية العنوان في الأرض يا سلمى).
أسماء أدبية عديدة “من القصاصين اليمنيين أدلوا بدلائهم في بئرها -الهجرة- لكن محمد عبدالولي يتفرد عن هؤلاء جميعًا بخصوصية تعود إلى منشئه ووضعه الاجتماعي المختلف نسبيًّا عن منشأ هؤلاء، إذ إنهم كتبوا عن المغترب اليمني الذي يذهب إلى وراء البحار، وكتب محمد عبدالولي عن هذا المغترب وعن المغترب الآخر (المولَّد)”، كما يقول إسماعيل الوريث في كتاب (تطواف).
كل القراءات في أعماله تكتشف أنّ موضوع الهجرة والاغتراب “يُخيِّم على متن النص السردي بصورة مكثفة وحميمية على نحوٍ لافت. وفي أضعف نموذج لهذه الحالة تجد طيفًا من هذا الملمح الموضوعي ينسلُّ بين ثنايا النص أو خيطًا عالقًا في إحدى زواياه. وباختصار شديد، فإنّ المهاجر اليمني هو البطل الأكثر حضورًا في قصصه ورواياته. يعكس، فيما يكتب، حياة ومعاناة ومصير المغترب اليمني. وقد تكون الحبشة من أكثر النماذج تكثيفًا وكشفًا لحقيقة ما يعيشه المغترب اليمني من مكابدات اجتماعية واقتصادية وثقافية، تُطوِّح به بين زوايا شتى من تناقض الانتماء والهُوية وشتات المقام والمراوغة المؤلمة بين الذات والواقع”، كما يقول حسن عبدالوارث في شذرات من أدب الهجرة اليمنية.
وغير هذه الصورة النمطية الاختزالية، التي تشكّلت عبر سنوات طويلة من القراءة والدرس النقدي، عن الموضوع في أدب محمد عبدالولي “ثمة صورة أخرى لأدبه، لا تزال غائبة أو مغيَّبة، ويتطلب استكشاف خطوطها الأولية النظر إلى أعماله بمنظور إنساني وكوني، يتسق مع طبيعة ورسالة النص الإبداعي عمومًا، على اعتبار أنّ كل نصٍّ إبداعي هو نص كوني وإنساني وعالمي بالضرورة”. كما يقول أحمد السلامي في موضوع (مدخل لإعادة قراءة الموضوع في أدب محمد عبدالولي).
في 1939م، وُلد محمد عبدالولي في حي من أحياء العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، من أم حبشية وأب مهاجر يمني. ووجد نفسه منذ الطفولة الباكرة ممزقًا بين لغة أمه، لغة البيئة التي ولد فيها وعاش طفولته الباكرة من جهة، وأب “فقيه” يعلم أطفال المهاجرين اليمنيين القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية حرصًا على المحافظة على هويتهم الثقافية. وهكذا وجد محمد عبدالولي نفسه يتحدث لغتين في الوقت نفسه؛ لغة أمه الإثيوبية، ولغة والده العربي اليمني، ويجد نفسه أيضًا ممزقًا بين الانتماء لمجتمعين، مجتمع المهاجرين اليمنيين المحافظ أخلاقيًّا، والمجتمع الإثيوبي المنفتح نسبيًّا.
عاد إلى اليمن سنة 1946م، في السنة نفسها التي أنشئت فيها مدرسة الجالية اليمنية في إثيوبيا، ولذلك لم يلتحق بها إلا بعد عودته من اليمن. فقد التحق بها سنة 1949م، وفي سنة 1954م حصل من حركة الأحرار على منحة للدراسة في مصر ومعه مجموعة من الطلبة الذين سيكونون فيما بعد من العاملين للتحرر من ظلام القرون.
وكان المتوقع أن يقع الطالب المراهق محمد عبدالولي وزملاؤه إما تحت تأثير التيار الإسلامي بفعل دراسته في الأزهر، أو تحت تأثير الحركة الناصرية التي كانت في أوج صعودها حتى حقّقت أكبر إنجازاتها بتوحيد مصر وسوريا وقيام “الجمهورية العربية المتحدة” سنة 1958م، لكن الطالب محمد عبدالولي وصحبه، فاجأ الجميع بانتمائه لليسار، واقترابه من الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في مصر المعروفة اختصارًا بـ”حدتو”.
انتماء محمد عبدالولي لليسار في مصر قد أتاح له الانفتاح على الثقافة الحديثة. فقد كان أغلب المثقفين المصريين في منتصف خمسينيات القرن العشرين، حين بدأ تفتحه السياسي وتكوينه الثقافي، من خريجي المدارس الفرنسية في مصر وعلى صلة بالثقافة العالمية، وبخاصة الفرنسية، ولهم حضور كبير في الشعر والقصة والمسرح والفن التشكيلي والنقد الأدبي والفني، وفي الصحافة، وبخاصة الصحافة الثقافية. واضطر الضباط الأحرار للاستعانة بالبارزين منهم في المؤسسات الصحفية والثقافية.
وفي هذه الفترة، برزت مجموعة من زملاء محمد عبدالولي في الدراسة في القاهرة وفي حركة اليسار، مثل محمد أنعم غالب، وعبده عثمان، وإبراهيم صادق في الشعر الجديد أيضًا، وعمر الجاوي وأبوبكر السقاف في النثر الأدبي، وهي المجموعة التي تولت قيادة “مؤتمر الطلبة اليمنيين الدائم في مصر”، وأصدرت بيانًا ما يزال يعد وثيقة تاريخية.
كان متوقعًا أن يصل هذا الخيار السياسي الذي اتبعه محمد عبدالولي وزملاؤه إلى الاصطدام بالمخابرات المصرية، وهو ما أدّى إلى طردهم من مصر وحصولهم فيما بعد على منحة للدراسة في الاتحاد السوفيتي. لكنه لم يغادر مصر إلا بعد أن كان قد اكتسب تكوينًا أدبيًّا وثقافيًّا متينًا، وكان قد قرأ في الأدب، سواء باللغة العربية أم باللغة الإنجليزية، أم ممّا تُرجم من الأدب العالمي إلى اللغة العربية. مع أنّ المنحة التي حصل عليها للدراسة في موسكو كانت في الهندسة المدنية، وجد نفسه منشدًا مرة أخرى للتحويل للدراسة في معهد مكسيم غوركي للأدب، على أمل دراسة الأدب الروسي في مصادره. لكن الإقامة في موسكو والدراسة في هذا المعهد لم تدُم طويلًا، كما أنّ لغة الأدب فوق اللغة، وليس من السهل إجادتها بسرعة. ويتضح من استعراض القصص التي كتبها خلال تلك الفترة أنّه قد ركز جهوده على إجادة لغة السرد وتصوير الشخصيات وتحسين رسم الحبكة القصصية وتطوير فنه الأدبي.
لقد كان بحق مغامرًا كبيرًا يعيش غربة وتمزقًا بين انتماءين، إلى إثيوبيا موطن أمه، واليمن موطن أبيه. وجالت العبقرية القصصية والأدبية منذ وقت مبكر في حياته، فأُولى القصص التي رضي عنها واختار نشرها تعود إلى سنة 1958، حين كان عمرُه لا يتجاوز تسع عشرة سنة، وهي سن مبكرة بالنسبة لكتابة قصص ذات مستوى متقدم من حيث تقنية فن القصة القصيرة.
وقد اختار منذ البداية، قضيتين رئيسيتين ليركز عليهما فنه القصصي؛ الغربة التي يعيشها واقعيًّا ونفسيًّا، وقضية المرأة ومعاناتهما معًا، كما يقول د. علي محمد زيد، في كتابه الثقافة الجمهورية.
على مدى نصف قرن، بقيت رواية “يموتون غرباء” عنوانًا صريحًا لأدب الهجرة اليمنية، أو بأحد التعبيرات “تكاد تكون المانيفستو الأدبي لموضوع الهجرة والاغتراب”، كما يضيف عبدالوارث، وهي كنص تبدأ بصوت راوٍ خارجي، يمهد للقارئ التعرف بالنصف المكمل لسيرة الشخصية المحورية “عبده سعيد” في زمنها المهجري. فكلُّ ما عرفه سكان “سدست كيلو” في أديس أبابا أنه فتح دكانه الصغير منذ عشرة أعوام، وبالمقابل عرف “عبده سعيد” كل شيء عن أهل الحي وعلى وجه التحديد نساءه، وهذا الحي “حي السادة والعبيد، حي الفيلات الصغيرة الأنيقة وحي الأكواخ، حي هادئ كحدائقه الخضراء، وصاخب كالخمر تتدفق براميلها في بطون السكارى، حي موحش كصراخ المومسات القبيحات. أما هو فلا يهمه هذا الأمر، إنه يعيش بينهم لكنه بعيد عنهم، كالبعد بين ملابسه المتسخة السوداء ووجهه الأبيض المبتسم”، كما يرد في رواية (يموتون غرباء).
*ل منصة خيوط.