عيون مفقوأة
كانت إلى وقتٍ قريب نوافذ…
نوافذ مشرعة للجمال
منفرجة باتساع عدد من السماوات،
نوافذ تطل على بساتين
ومقاشم خضراء كالجنانِ.
نوافذ تتقن سَحْب الضوء إلى الداخل
بآلية جذبٍ عبقرية ومدهشة
لتنشر انعكاساته الزاهية في الأرجاء تباعاً،
فتمارس معه هواية اللمعان
و”البرع”
وفنون جنونية أخرى مثيرة
تملأ الحياة حياة،
تتلو عليه ما تيسر من الآيات “الحُمينية” المقدسة بأصواتٍ مختلفة،
وتسمِعهُ اللوان المدينة من الموسيقى ،
تترجم له حوارات المآذن المتطاولة بأعناق بدائع الموشحات،
تطعم أفئدته من أشجان البالة
ومن الأهازيج المعجونة بتاريخ هذا المنزل…
تهْرق له تباعاً اقداح من القهوة اليمانية المعتقة بكرمٍ،
فيفرغها بنهمٍ دفعات متتالية
وكأنه يغسل شيئاً في جوفه.
عيونٍ تذرف دموعها الآن حُزناً وقهراً
وغبناً وعذاباً
تذرفها أوجاع شاسعة
و بمرارةِ ضرير بائس
ضرير أدرك الآن فقط أنه لم يعد يرى شيء
حتى ما أصابه …
وإن أرتد بصره إليه
فلن يرى …فكل شيءٍ انتهى …
عيون غائرة تُراق دموعها السوداء والقاتمة ،
دموعها القيحية اللزجة
والتي تشبه إلى حدٍ كبير تلك الكائنات التي حلت في هذا المنزل اغتصابا
و أحالت شواقيصه الفاغرة بالفرح
و”قمرياته” الزاهية بالحياة،
و”مشربياته” الفاتحة أذرعها للريح
إلى نوافذٍ محطمة لا تروق سوى للموت …
…..
(الكائنات استوطنت المنزل)
كان هذا آخر صوت أصدرته حمامة بمظهرٍ مزركش وجميل
مظهرٍ اكتسبته من سحر هذا المنزل
الذي انعكست جماليته على كل من فيه
بمن فيه هذه الحمامة…
بذعرٍ غادرته
وهي التي لم تبرحه منذ رأت الحياة فيه…
عاشت في بحبوحة
أغنتها عن التحليق خارج فضاء هذا المنزل..
غادرت أخيراً
بلا يقين إلى أين ستتجه،
ولا إحاطة بما ينتظرها
شقت سبيلها في هذا الغموض
نحو وجهات غيبية لا تفقه خواتيمها…
حلقت عالياً
تاركة المنزل لعبث الكائنات وعشوائيتها..
غادرت
وهي تردد بصوتٍ يابس ومتشقق وحزين :
(الكائنات استوطنت المنزل)
احتلت الكائنات ذلك المنزل
الذي لعلعت في جنباتهِ أصوات الجميلات لقرونٍ
بلهجتهن الرقيقة ، وغنجهن الدافئ،
وأكتض فيه عرف البخور
الذي كان ينسل خلسة في الأزقة
ليغدقها عبقاً ويمنحها حياة وانتعاش.
المنزل
مسكون بالكائنات
الكائنات المدججة بالجهل والرصاص،
والكراهية ،والحقد،
والبغضاء ،والعداوة والمقت، والضغينة، والغل
والكثير الكثير من الأشياء البدائية والموت (لأمريكا) أمريكا الوهم.
لا شريك للكائنات في هذا المنزل
وكل من لا يعترف بتبعيتهِ لها،
و ولائه،
وإخلاصه،
وعبوديته الخالصة لوجهها القبيح
فجزاؤهُ الموت .
فالذين عجزوا عن الفرار من ذلك المنزل
يعيشون عبيدًا الآن…
يتجنبون الحديث عن الماضي
والحاضر
والمستقبل،
وعن الحرية، والضوء،
والخلاص
والانعتاق،
وعن ولادة أي فجرٍ يبدد حلكة ما هم فيه…