منبر حر لكل اليمنيين

من سرق حذاء هائل سعيد (٢-٢)

33

جزمة الحاج هائل المسروقة موزية الشكل مصنوعة من جلد أصلي وأرضيتها قوية من دون كعب، ومش هي جديدة لنج، ولكن من شكلها مستخدم نظيف، ماشية في الطريق خمسين كيلو تقريبًا.

وصلنا بها إلى سوق الجحملية ندور لها بيعة واحنا نرسم أحلام الاستفادة من قيمتها باعتبار أنها ستكون جزمة غالية بكل تأكيد لأنها جزمة امبراطور رأس المال في اليمن.

تنقلنا بها من خياط أحذية إلى آخر ومحد منهم رضي يشتريها مننا !، وكلهم قالوا لنا إنها جزمة قديمة ومش مرغوبة عند الزبائن الذي يدوروا للعيد جزمات من نوع آخر.

خياط الأحذية الوحيد الذي وافق يشتريها مننا، بخسها وجاب لنا مبلغ قليل جدًّا، ومايكفيش قيمة تذكرتين لدخول السينما أو لدخول السيرك المصري عاكف الذي ستستضيفه مدينة تعز.

قررنا واحنا في جولة الجحملية أن نبيعها لأجانب من جنسية صينية كانوا يشتغلون في سفلتة الطريق بالشارع العام.. قلنا يمكن تنفع أي واحد فيهم لو هو يشتي يلبس جزمة قوية تحمي قدميه من لهيب حرارة الدامار الذي يكرعوه تحت أرجلهم في الرصدة. وسرنا نوريها لهم وسط الشارع ؛ وحنبنا كيف نكلمهم؟ وكيف نتبايع احنا وهم على سعرها، وشفنا أن أقدامهم أكبر من مقاس الجزمة، وشعرنا بعدم جدوى البيعة للصينيين، وشليناها منهم ذيك الساع وسرنا ندور لها مشتري ثاني في السوق.

دخلنا بها إلى بوفية” محمد صغير” في العرضي، وتنقلنا بها بين الزبائن الجالسين على الكراسي في دكة على ناصية الشارع العام وعرضناها عليهم للبيع، وكل واحد كنا نقول له:
– تشتري مننا هذي الجزمة؟
يقول لنا:
– حق من هيه؟، ومن أين أديتوها؟، وليش تشتوا تبيعوها؟
ومحد رضي يشتريها مننا !

واحد من زبائن البوفية شلها من يداتنا، وجلس يقلبها في يده وكأنها تحفة ثمينة، وقال يسألنا:
– من أي جامع سرقتوها؟
خفنا وتلعثمنا، وصاحبي حلف له يمين أنها جزمة جده المتوفي قبل شهرين، وانا حلفت بعده يمين أنها حق جده، وصدق ايماننا ورجع لنا الجزمة، وشليناها من يده واحنا خائفين من أي فضيحة، وقانعين تمامًا أنها ما شتبتاع !

شعرنا ذيك الساع أن احنا في ورطة، وأن التنقل بالجزمة بين محلات ودكاكين سوق حارتنا ، حيث المعاريف كثر، أمر مثير للشكوك وللشبهات.
وقررنا في لحظة يأس وإحباط أن نلبسها أنا وصاحبي يوم بيوم، لما يختار لنا الله طريق.
ولكنها كانت جزمة من موديل قديم لا يتناسب إطلاقًا مع طموحنا الاثنين كصبيان ندور الموضة ونشتي جزمات شبابية “أبو دندلتين” وحنبنا وين نوديها؟، وأين نخبيها !
قلت لصاحبي:
– خبيها عندك في البيت وبكرة نسير نبيعها في المدينة
رفض وقال:
– لا.. خبيها عندك أنت، أنا مقدرش أدخلها معي البيت، أبي وأمي شسألوني حق من؟ ومن أين أديتها، وشيفتضح أنها مسروقة.
ورجم لي بالجزمة وسار في حال سبيله وفلتني حانب أضرب أخماس في أسداس وين أخبيها، وأين أوديها !
ومشيت بها في طريق العودة إلى البيت، وانا أكلم نفسي طول الطريق:
– لو روحتها معي البيت شتعرض لنفس المساءلة، حق من؟، من أين أديتها؟، وسين وجيم، في تحقيق عائلي نتائجه معروفة وعواقبه وخيمة !

– ولو قلت شرجم بها في أي زغط، أو في أي جامع وأخلص من همها، لكن أين شاسير من شريكي في عملية اختطاف الجزمة؟.. هو راكن على مشقاية وعلى فائدة من البيعة المرتقبة.

– وإن قلت له مثلاً إننا رجمت بها ما شيصدقني لو أحلف له ألف يمين، ومش بعيد يسير يفضح بي بين عيال الحارة اننا سرقتها من الجامع.

وبعد تفكير طويل خبيتها بين كومة قلافد في حوش البيت،
وخفت يجيء مطر يخسعها وتفقد قيمتها !
وعلى طول سرت أشلها من مخبأها في الحوش، وهرّبتها على فردة فردة إلى شنطة ملابسي في غرفة النوم، وكشحتها بين الثياب فيسع قبلما حد يدرى.

وفي الليل، قبلما أطرح رأسي فوق المخدة لأنام، خفت لو تقوم أمي تعطف الثياب في الشنطة ويفتضح أمر الجزمة، وتدخلني في سين جيم.. قمت من فوق الفراش وشليتها على طول من الشنطة وكشحتها بسرعة، فردة فردة، داخل كيس مخدة نومي المغشاة بملاية وردية قديمة مكتوب عليها أحلام سعيدة.

وطرحت رأسي من بعد ذلك فوق نفس المخدة لأنام
لكني كنت قلق ومهموم ومتوتر جدا وأشعر بأني واقع في حنبة تصرف سيئ دفعني إليه متطفل كريه يقف عثرة امامي في طريق مكارم الحاج، وماعد قدرت أرقد وجلست طول الليل أتقلب على فراشي، ورأسي يتقلب معي فوق المخدة من فردة إلى فردة، وكلما أجي أغمض عيوني شرقد، أشعر بأن الحاج هائل يتمشي بجزمته داخل رأسي، واسمع وقع خطواته تخالط نبض قلبي الخائف، واتذكره وهو يفرع لي أنا وصاحبي من فضول المتطفل، واتذكره وهو يفتح لنا باب فيلته ويوزع علينا مكارم يوم الجمعة.

شعرت بتأنيب الضمير وقررت أن أعيد الجزمة إلى مكانها في صندوق الأحذية داخل الجامع، وبمجرد ما إن سمعت صوت المؤذن يقول “الله أكبر” لصلاة الفجر، أخرجتها من كيس مخدة النوم، وسرت أجري إلى الشريك في عملية الاختطاف، قيمته من النوم، وفهمته في الطريق أنو لازم نرجع الجزمة إلى مكانها، واقنعته بذلك على الأقل منشان ما نخسر مكرمة يوم الجمعة.

وصلنا إلى الجامع متلصصين، وتخبينا في دورة المياه، وأول ما بدأ الإمام بتكبيرة الركعة الأولى هرعنا لصندوق الأحذية لنعيد الجزمة الى مكانها المخصص بسلام وشفنا إن الحاج جاء يصلي يومها بصندل جديد وشفنا في خانة قرية منها جزمة صاحبنا المتطفل وقمنا على التو بعملية تغيير سريعة وتلقائية
نتعنا صندل الحاج بسرعة وطرحنا مكانها جزمة المتطفل وبنفس السرعة طرحنا الجزمة المسروقة في خانة حذاء المتطفل وهبببااااا تركنا أقدامنا للريح وهربنا مفجوعين نجري من داخل الجامع ما عانشتي ولا صلاة.

صندل الحاج هائل كان جديد لنج ومليح ومصنوع من جلد أسود أنيق، أعجب صاحبي وجرب يلبسه وجاء على مقاسه طبق، وتمسك به بشدة وقال يشتيه له شيلبسه في العيد، واختلفنا في الطريق، وما سدينا، ودخل بيننا الطمع والعناد على غنيمة الصندل المسروق وانتهى الخلاف بيننا الى قسمة صبيانية لا نقاش فيها ، وتحاصصناها الاثنين، فردة بفردة، وكل واحد أصبح حر بحقه الفردة يعمل بها ما اشتى.

ومش عارف كيف واجه المتطفل ؛ الموقف المحرج بعد الصلاة يومذاك ؛ ولا عارف كيف تصرف لإثبات انه مش الذي سرق الجزمة، وان لا علاقة له بالصندل المسروق لكنه كان متطفل لزج وكريه وصاحب وجه ربل، وأغلب الظن أنه سيحاول إقناع الحاج هائل بأنه مناضل شريف لا يسرق الصنادل ولا الجزمات.
ومش عارف برضه أيش عمل صاحبي بحقه الفردة من الصندل؟ وأغلب الظن أنه قطعها إربًا إربًا، وعمل منها جلد لمخمي صيد الجوالب والحمام في الحارة.

وأما أنا احتفظت بفردة الصندل مخبأة داخل نفس كيس مخدة النوم المغشّاة بكيس الأحلام السعيدة. وظللت لفترة طويلة أشعر وهي تحت رأسي بأنها تعلمني المشي السوي في الطريق القويم لإسعاد الناس ولقضاء حوائجهم، وظللت لأوقات طويلة أسمع في وقع خطواتها قهقهات الفقراء والأرامل والعجزة والمسنين، والمحتاجين وارسم أحلامي المستقبلية على وقع خطوات الحاج هائل وعندي أمل كبير أنها ستكون في يوم ما قارب منجاتي من غلائب الدهر . وكانت عندي أشرف ألف مرة من وجوه كل الأثرياء الذين يفتقرون تماما لأخلاق العناية بالناس .

وعشت أحلامًا كثيرة من بعد ذلك، أشوفني فيها أمشي بين الناس في الشارع وأخالطهم في مجالس كثيرة وفردة الصندل في يدي، وكلما صادفت أمامي أي متطفل مناع للخير أخبطه بها على رأسه، وأشعر دائما بأنها سلاحي المتاح في المواجهة اليومية مع المتطفلين .

وسارت ايام وجت ايام
وفي يوم فضيل من اواخر شهر رمضان سنة 1992 مات امبراطور المحسنين الحاج هائل سعيد انعم طيب الله ثراه
وأغلقت الفيلا أبوابها أمام صبيان الحواري الفقيرة
وانطفأ نور الروحانية في زوته المعتادة داخل جامع الرحمة
وذهب إلى ربه آخر المطهرين الذين أمسكوا بالمصحف الشريف، تاركًا خلفه ثراء وفيرًا، وسيرة عطرة و”آل” كرامًا محسنين، فاتحين باب المكارم على مصراعيه لمتطفلين كثر يشتوا لهم ملان الصندل يا بيروجيا.
*من صفحته في فيس بوك ل صحيفة اليمني الأميركي.

تعليقات