منبر حر لكل اليمنيين

من سرق حذاء هائل سعيد ؟ ( ١-٢)

26

تمكن بيروجيا، الشاب الإيطالي الفقير من سرقة لوحة موناليزا العالمية من متحف اللوفر بفرنسا، وشعر بتأنيب الضمير من بعد ذلك وأعاد اللوحة إلى مكانها في المتحف، بشرط أن يعيش إلى جوارها مدى الحياة، حدث ذلك في سنة 1911.
لكن أيش الذي حدث لحذاء الحاج هائل سعيد أنعم داخل جامع الرحمة في حارة المجلية بمدينة تعز سنة 1986؟
الحكاية مسلية وظريفة على أية حال ..

كنت في الحادية عشرة من عمري في هاذيك الأيام
وكان الحاج هائل يصلي الفجر بشكل يومي في جامع الرحمة القريب من بيته وله طقس معتاد.
يجيء قبل صلاة الفجر بساعة، يجلس في زوته المعتادة بالصف الأول، متركي بظهره الناحل إلى عمود خرساني وفي يده مصحف كبير يتلو منه، ويبدو بلباسه الأبيض الناصع إنسانًا من نور هبط من السماء إلى الجامع في مهمة إنسانية يومية لقضاء حوائج الناس الذين يقدمون إليه أوراق طلبات المساعدة..
وفي يوم الجمعة، فقط، بعد صلاة الظهر مباشرة ؛ يفتح بيبان فيلته لصبيان الحواري المجاورة، للجامع ويوزع عليهم داخل الحوش الخضير بعض الريالات.

بالنسبة لي أنا وصبيان الحواري الفقيرة
كان الحاج هائل سعيد “بابا نويل” الذي يوزع علينا مكارم بسيطة تكفي للاستماع بمباهج يوم الجمعة.
وبالنسبة لكل هولاك المحتاجين الذين ينتظرونه عند مدخل باب الجامع، فإن قدومه للصلاة في كل فجر مفرح تمامًا مثل قدوم النبي.
في إحدى المرات كان الموسم عيد، والمباهج المنتظرة بالنسبة لصبيان الحواري الفقيرة كثيرة، أفلام جديدة في دور السينما الخمس، عروض سيرك لأول مرة بمدينة الألعاب، وعروض للقوة الخارقة في ميدان الشهداء، ومكرمة يوم الجمعة مش كافية بالنسبة لي كصبي نفسه شتفلت على كل هاذيك المباهج المرتقبة.

رحت أصلي الفجر في الجامع حينذاك، ومعي ورقة في جيبي أشتي أقدمها للحاج هائل لأظفر منه بحوالة سخية من حق الكبار، ستجعل كل المباهج في متناول يدي، لكن وبمجرد ما إن وجدت فرصة سانحة للاقتراب من زوة الظفر التي يجلس فيها الحاج،
وعادنا إلا مديت له الورقة، نبع لي واحد متطفل كان جالس جنبه وسحبني من يدي وسار بي إلى الصف الأخير، وصوته يقل لي بهمس غضوب:

– مو معك للمزاحمة هنا بين الكبار؟ قد معاكم يوم الجمعة في البيت.. هيا مخرج.

روحت يومها وقلبي مفكود منه.. وفي اليوم الثاني حاولت التقرب من الحاج هائل بطريقة مختلفة، راعيت له أول ما دخل الجامع وطرحت شمبلي في نفس الخانة الذي يطرح فيها جزمته، عشان تتعلم منها كيف تمشيني في الطريق إلى الظفر المأمول، وذلك طبعًا أقصى طموح يمكنني بلوغه، وما دريت إلا وهاذاك المتطفل نفسه يشل شمبلي ويرجم بها إلى خارج الجامع، وهو يقول لي بنفس الصوت الكريه:

– مو معك تطرح شمبلك هنا.. هذي بقعة جزمة الحاج وبس.

حسيت بالإهانة على شمبلي صراحة، وعرفت أن هاذاك المتطفل قدو يعرف شكلي وما شيخلي لي حالي، وهو ضابط يجي كل يوم يصلي الفجر وبس، وكل يوم معه ورقة يقدمها للحاج يشرح له فيها عن أدواره البطولية في حرب البسوس وفي حرب مسابقة بسكويت أبو ولد.. وتيقن لي أنه ما بيخلي لي حالي، وقررت أن أغير الخطة.

عملت تمويه احترازي يربشه عني وعزمت واحد صاحبي يجي يصلي معي الفجر في الجامع وحذرته من المتطفل ما أشتيه يعرفه، وعلمته كيف يتصرف داخل الجامع عشان ما يشك فيه، وكلمته متى يفترض به أن ينبع إلى زوة الحاج، وأي حين هو الوقت المناسب لتقديم الورقة.

تحمس صاحبي للخطة، ودخلنا لصلاة الفجر من أبواب متفرقة، واكتشف المتطفل أمره بسرعة بمجرد ما إن حاول الاقتراب من زوة الحاج، ونطبه من بين الزحام ورجعه يجلس جنبي في الصف الأخير بطريقة مهينة وجارحة للكرامة، وشعرت حينها فقط بأن الأمر قد أصبح قطع رزق متعمد من متطفل كريه
وبمجرد ما إن قال الإمام “الله أكبر” للسجود، في الركعة الأولى؛ سحبت صاحبي معي خِلسة من الصف الأخير إلى صندوق الأحذية، وشلينا جزمة الحاج هائل من بقعتها وخرجنا نجري بها سكتة إلى بقعة قريبة من باب الجامع، ورجعنا مسرعين إلى الصلاة بكل وقاحة ما نشتي الركعة الثانية تسير مننا، ولا نشتي هاذاك المتطفل يشك بنا.

وفي هاذيك اللحظات الصعبة طبعا
كان كل الواقفين خلف الإمام داخل الجامع يصلون الفجر بقلوب خاشعة، عداي أنا وصاحبي، واقفين بينهم نرتعش، ونصلي صلاة الخوف، ونرفع إلى الله في القنوت ما تيسر لنا من أدعية السلامة لحذاء الحاج المخطوف.

كملت صلاة الفجر، وبدأ المصلون بالخروج، وقام الحاج هائل من بقعته، وسبقه هاذاك المتطفل كما العادة إلى خانة الأحذية، وانا وصاحبي ما زلنا في أماكننا نتركوع ونسجد ونسلّم بلا حساب؛ ونرجع نصلي سهو وقضاء، واحنا نتلفت ورانا بعيون حذرة، بينما كان المتطفل يتلبج بين خانات الأحذية يدور جزمة الحاج في زوايا متعددة داخل الجامع، وقمنا من بقعتنا وجلسنا ندور معه أين سارت الجزمة !

كان الحاج هائل واقف ينتظر نتيجة البحث، وحوله عدد قليل من المصلين يعبّرون عن استنكارهم لحادثة سرقة الجزمة، وانا وصاحبي وقفنا جنبه، نستنكر وندين حادثة سرقة الجزمة من جيز الذي يستنكروا !

ومش كذا وبس، بل إننا كنا أول المتبرعين بالأحذية للحاج، وقمنا ذيك نرجم له بشنابلنا على الأرض في حركة شهامة منقطعة النظير، وقلنا له:
– البس الذي تجي عليك من حقنا الشنابل ياباه.. ولما تحصل جزمتك رجع حقنا.

يعني ما كنا نشتيه يرجع للبيت حافي، وكنا نشتي نتقبيل قدامه عشان محد يشك بنا، ولكن المتطفل اللعين “الله ينتقمه” شك بنا بمجرد ما إن شافنا واقفين قدام الحاج، وأجزم أن الجزمة معانا ومسكنا ذيك الساع من رقابنا الاثنين بقبضة يد قوية وهتورنا قدام الحاج وهو يصيح فوقنا بوجه مقلوب، ويقول لنا:
– أين الجزمة حق الحاج يا عيال السوق؟
خرجوها الآن، والا حرااام لا أخرجها من عيون أبتكم يا سرق يا بني السرق.

ارتعبنا منه وخفنا وحمرت وجوهنا وصفرت وخضرت وأصبحت إشارة مرور مخروطة من شدة الخوف، وما فرع لنا من قبضته ذيك الساع ؛ غير الحاج هائل الذي غضب بشدة من رعونته في التعامل معنا، وسحبنا الاثنين من يده ونهره وعنّفه وصيح فوقه ليش يتفاضل، وقال له بصوت غضوب: فلت لهم وروحلك.

أفلت المتطفل يده من رقابنا في الحال وهو يحاول أن يوضح للحاج أسباب شكوكه حولنا، ولم يستمع له الحاج، وكرر الصراخ في وجهه: مالك دخل منهم ولا لك دخل من جزمتي.

سار المتطفل في حال سبيله لحظة ذاك، وانتهى الموقف بسلام، ومشينا أنا وصاحبي من المكان واحنا متجملين من الحاج هائل.

وبعد شوية وقد طلع ضوء الصبح،
رجعنا إلى عند باب الجامع نمشي حذرين في مسرح الجريمة، نتلفت يمين وشمال، وشفنا المكان آمن ونبعنا فيسع إلى مخبأ الجزمة وشليناها من بين الحجار، وجرينا بها في الطريق مسرعين، وفرحين ساع لابو معانا بين إيدينا مصباح علاء الدين السحري الذي لو فحسناه شيخرج لنا من داخله مارد يحقق الأحلام، ويأخذنا فوق بساط الريح إلى مباهج العيد المرتقب
………….
البقية بكرة

تعليقات