“الليالي المحفوظية”
سعى نجيب محفوظ طوال رحلته إلى تأصيل أسلوب روائي شرقي-عربي إذا جاز التعبير، وهي مهمة جليلة يشق أن يقوم بها فرد واحد، إذ هي تحتاج إلى مئات المبدعين وإن تفاوتت مواهبهم، لخلق تيار أدبي خاص بالمنطقة، وابتكار رواية عربية لا تدين بشيء للرواية الأوروبية، ولا تمت بصلة لتراث ميغيل دي سيرفانتس وخلفائه.
كان نجيب محفوظ يكتب رواياته وهو على وعي بأن القالب الذي يستخدمه مستورد من الرواية الأوروبية، بل وأنه قالب قد عفا عليه الزمن هناك في منبعه، ومستهلك إلى حدٍ لا تستسيغه ذائقة الفنان المرهف المتطلع إلى الجمال والذوق الرفيع.
وشيئًا فشيئًا طور نجيب محفوظ ثيمات شرقية في أعماله الروائية، وبدأ يُغيِّر البناء الروائي وفقًا لهذه الرؤية الفنية والأشواق الدفينة التي تمور في جوانحه، فأتت رواية “ملحمة الحرافيش” ذات بناء فكري شرقي الطابع، تحمل شبهًا معنويًا في بنائها الروائي بالطراز المعماري الإسلامي، ومخططها الهندسي ينهض على أسس رمزية تعادل المكونات الروحية للشعوب العربية-الإسلامية.
يمكن للقارئ من الثقافات الأخرى أن يتجول في أروقة “ملحمة الحرافيش” ويتمتع بجمالها الظاهري ويخرج بنصف الغنيمة، ولكن بالنسبة للقارئ المسلم فإن متعته مضاعفة، لأنه يشعر بوشائج روحية مع أحداث وشخصيات الرواية، من خلال صور مألوفة، وإشارات موروثة، نظرًا لتكوينه الثقافي ضمن مجتمع مسلم.
لن أخوض في تأويل رموز نجيب محفوظ في “ملحمة الحرافيش”، فهذا شأن النقاد، وقد أشبعوها بحثًا فما من مزيد.
وما يهم هنا هو الإعجاب بهذا المسار البطولي الذي سلكه نجيب محفوظ لابتكار أسلوب روائي عربي صميم، ينبع من تقاليد حكواتية شرقية موغلة في القدم، وبلاشك يأتي السفر الخالد “ألف ليلة وليلة” في المقدمة، ومنه بالتحديد انبثق التجديد الذي قام به نجيب محفوظ في البناء الفني للرواية.
إذن اقتفتْ “ملحمة الحرافيش” أثر “ألف ليلة وليلة” وضاهتها في هندسة البناء عن طريق توالي الحكايات وتوسعتها أفقيًا، كما يحدث للمساجد الإسلامية المقدسة التي ظلت تتوسع رقعتها خلال الحقب الزمنية المختلفة، فهي ظاهريًا تبدو رواية أجيال، ولكنها أبعد من ذلك، فهي تروي تاريخ الحياة الروحية لشعوب الشرق الممتدة عبر آلاف السنين في 560 صفحة لا غير، وبواسطة عدد محدود نسبيًا من الحكايات، مع تلميح لأهم رموز هذه المراحل الروحية وأدوارهم المحورية فيها، كل ذلك في تطريز سردي موازي لأسلوب الحكاية الشعبية المتقشف البسيط، الذي يتجافى متعمدًا عن تقنيات الفن الروائي الغربي المعروفة مثل الحوار الداخلي والتحليل النفسي والفلاش باك وسواها من التقنيات التي تحيلنا فورًا إلى أجواء الرواية الغربية.
بعد انكشاف الخارطة الرمزية التي صممها نجيب محفوظ في روايته الذائعة الصيت “أولاد حارتنا” وتعرضه للأذى، صار أكثر حذرًا ودهاءً فصمم خارطة رمزية أكثر غموضًا وخفاءً في روايته “ملحمة الحرافيش”، وحقق أهدافه الفنية والجمالية النبيلة بعيدًا عن أعين المتربصين بالفن الرفيع وضيقيّ الأفق أعداء الخبرات الروحية، ويكفي أن نجيب محفوظ برؤيته الفنية المتقدمة سابق لعصره بخمسمائة عام على الأقل.
تتحدث رواية “ملحمة الحرافيش” عن لقيط لا يُعرف له أم أو أب، اسمه (عاشور الناجي)، وحكايته هي أول حكايات الرواية، وتشغل خمس مساحة الرواية تقريبًا، ويعنونها نجيب محفوظ بالنص هكذا: “عاشور الناجي، الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش”، ثم تتناسل الحكايات عن أبناء وأحفاد عاشور الناجي وأحفاد أحفاده، ويختمها بالحكاية العاشرة: “التوت والنبوت، الحكاية العاشرة من ملحمة الحرافيش”، والحكاية الأخيرة ذات نهاية مفتوحة تدل على سرمدية هذه العائلة التي يمكن أن تستمر حكاياتها إلى ما لا نهاية.
صدرت “ملحمة الحرافيش” عام 1977، ويذكر أن الأديب الكبير يوسف إدريس عندما قرأها شعر بغيرة شديدة وقال “عملها الراجل العجوز”! فقد أدرك قبل غيره وبوعيه الفني العالي أن نجيب محفوظ قد نفخ الروح في قالب روائي شرقي عتيق وأثري زهد فيه معاصروه.
وأما نجيب محفوظ فقد كان يعلم أن المبدعين الغربيين ليس بمستطاعهم استخدامه وإن رغبوا في ذلك، لأن تكوينهم الثقافي لا يتفق ولا ينسجم معه، فقد حقق بمجهود فردي خطوة متقدمة و(شجاعة) للاستغناء عن المنهج والأسلوب الأوروبي في كتابة الرواية.
لموقع صحيفة اليمني الأمريكي.