منبر حر لكل اليمنيين

من أربعينيات الفقيد المقالح

33

كان بابُ غرفته موارَباً حين دخلتُ عليه فجأةً وهو يكتب جالساً كعادته على الأرض منحنياً على قلمه، واضعاً أوراقَهُ على ركبته.

كنتُ في الخامسة من عمري أتقافزُ بين أحضانهِ كاسراً عليه خلوتَهُ ودقائقَ بَوحِهِ ووحيٍهْ. كان يبتسمُ لي بعينيه وحنانِ يديه فحسب قبل أن يعود لقلمه منحنياً على أوراقه.

تلك الجلسة.. تلك الركبةُ المنثنيةُ الواقفة.. تلك الأصابعُ المضيئةُ العنيدةُ التي لا تتعب.. انحناءة الظهر النبيّة أثناء الكتابة.. كل ذلك لم يتغير طوال ستّين عاماً.

ستّون عاماً.. ستّون كتاباً.. ستّون حياةً.. كلُّ ذلك انبثق من بين تلك الأصابع المضيئة المتّكئة على تلك الرّكبة المنثنية ويشدُّ كل ذلك انحناءةُ ظهرهِ المتقوّسةِ المنهمكةِ على قلمه وأوراقه، كأنه يحملُ بلاداً على ظهره!
لم يجلس على مكتب ليكتب طوال عمره.

وحتى حين كان يستقبل زوّارهُ وضيوفه وطلَبَتَهُ في المركز أو الجامعة كان يجلس إلى جوارهم جنباً إلى جنب.

في ظهيرةِ فاجعةِ رحيله، وبعد أن أضاءَ وجهُهُ بلقاءِ ربّه، وأضاءت شهقتُهُ الأخيرةُ المكان، مستلقياً على جنبِهِ الأيسر، كانت أصابعُهُ تضيء على ركبتهِ التي أبَتْ إلا أن تظل واقفةً منثنيةً كعادتها لحظة ميلاد القصيدة. حاولنا فَرْدَها بلا جدوى!

في روحي في روحنا جميعاً.. في حنايا بلادٍ بأكملها لن ينطفئ ضوءُ تلك الأصابع المضيئة أبداً.. ولن تتهاوى عزائمُ تلك الركبة المنثنية الواقفة المنتظرة.. وسنظل حاملين على ظهورنا أحلامَ بلادٍ وآمالَ شعب وكما تريد يا أبي الحبيب.

* من أربعينية الدكتور عبد العزيز المقالح – فاتحة كتاب “المقالح.. حياةٌ في الرحيل”.

تعليقات