منبر حر لكل اليمنيين

آخر مرة رأيت فيها “فبراير”

24

قال لي فتى صغير في العمر، كان يجب أن نقاوم وان لا نستسلم للهجرة والنزوح مهما كان الثمن، كان يجب أن نقف في وجه الارتجال الزائف الذي أوقعنا في فخ الهروب وجعل منا أباطرة وثوارا كبارا..

قلت له ولكننا لا نستطيع ولم يكن بوسعنا كبح جماح الحماس الذي توالد مثل الضباب، وإيقاف مواسم التزاوج بين السياسيين وتجار الدين والحروب وبين رأس المال ولعاب الكرسي.

قال. كان يجب أن نقف في وجه كل هذا الغثاء وان نزدري وقوفهم الكاذب أمام الآلهة وابتهالاتهم المغلفة بالأكاذيب.

وأضاف. كان يجب أن نحمي فبراير من كل هذه الحُمى التي ساقتنا إلى الجحيم وجعلت منا ممزقين مثل فريسة انقض عليها الضباع.

مر فبراير عشرات المرات منذ أن وِلدتْ بلاد جديدة بلا أفق، مليئة بالزوايا المعتمة والمنعطفات المخيفة، مر مغمض العينين دون أن يلتفت لحالنا ولو من باب التأمل أو الشفقة.

كم كان قاسيا وهو يسير بين الجثامين التي لا تزال أنفاسها تتصاعد، وجروحها تنزف، يحث الخطى وكأنه يريد التخلص من خطيئة.

آخر مرة رأيته فيها مر من رصيف مليء بالجرحى وذوي الهمم والباعة المتجولين وعمال الجولات، أغمض عينيه وتخطاهم واحدا واحدا، دون أن يصدر كلمة، وحين وصل رصيف الساسة وتجار الدين وبائعي الشعارات في زنابيل بلاستيكية مضرة بالبيئة؛ أمسك أنفه بقوة ثم أسرع الخطى، تعثر باقدام أحدهم كان يلبس ثوبا حتى اسفل الركبة لم يره جيدا أعتقد في بداية الأمر أنه جذع شجرة ميت أو بقايا جيفة لكنه نهض وهو لا يزال ممسكا أنفه دون أن يقول كلمة.

في الرصيف القادم رأى طفلًا يرتجف من البرد حافي القدمين يرتدي ثوبا متسخا للركبة بصدر مفتوحة وشعر اجعد مثل خرقة عتيقة وفي يده كسرة خبز ولعبة كانت تبدو مثله بلا روح.

رأى أيضا شيخا بلحية انيقة تعكس وقارا منقطع النظير؛ وجده منهمكا في معملا لأبحاث الأرض لم يسأله لماذا لم توقف كل هذه الهزات والزلازل وهذه الفيضانات، ولا طلب منه مساعدة الفقراء واحتواء الغرباء الذين تقطعت بهم السبل!!
كل الذي قاله له كيف تستطيع النوم بعد أن تمضي وقتا طويلا دون نتيجة في هذا المكان؟ لم يكن ذلك المعمل سوى سرير من خشب فاخر واريكة انيقة وطاولة طعام مرتبة ومكتبة كبيرة فاخرة بها كتب عن حركة الرياح وخلايا جسم الإنسان قبل أن تنبت في وجه لحية وبقع بلا ماء؟

تجاوز فبراير كل الأرصفة لكنه لم يصل ولا نحن الجميع اصطدم بجدار من الأفكار الفولاذية السحيقة، وشوارع بلا أضواء، كان كل شيء على الورق ورديًا ولكنه لم يكن كذلك على أرض الواقع.

تعليقات