تأخرت يا موت
أَنا الآنَ في ثَورةٍ ضِدَّ نَفسِي
وحولِي مِن الجِنِّ جَمعٌ غَفِيرْ
وعندي لِإِخمادِهِم بارِجاتٌ
صَوارِيخُها مِن حُروفِ الصَّفير
وعندي يَدٌ تَرفَعُ الصَّخرَ نَجمًا
وتَستَخرِجُ البَحرَ مِن قاعِ زِير
وعندي لِمَا لم يَكُن ذكرياتٌ
وعندي لِمَا كان سَهوٌ مُثِير
وعندي -هنا بين جَنبَيَّ- نُورٌ
ولن يَغلِبَ اللَّيلَ مَن لا يُنِير
ومَن لم يَكُن غَيمةً يومَ بَذرِ الـ
ـدَّوالِي، فلا كان يومَ العَصِير
ولا خَيرَ في ثائِرٍ لا يُغَنِّي
ولا شاعِرٍ حُزنَهُ يَستَعِير
أَفِي كُلِّ عامَينِ يَأتي أَمِيرٌ
جديدٌ، وما زال حُزني الأََمير!
وما زال يُنهِـي كِتابٌ كتابًا
ويَنسَاهُ.. خَوفَ انتِباحِ الهَرِير
متى الأَرضُ أَثقَالَها سوف تُلقِي
وتَهوِي على الآدَمِيِّ الأَخير؟!
كم اشتاقَ مِن خُبزِهِ الحَقلُ فيها
ورَوَّى -وما بَلَّ حَلــقًا- غَدِير
وكم داخَ مِن دَنِّها كُلُّ لِصٍّ
وأَمسَى على كُلِّ شَيءٍ قدير
لَكَ الحَمدُ؛ لم أحتَرِف بَيعَ شِعري
لِأَني -بهذا المُسَمَّى- جَدِير
وما زلتُ لا أَشتَكِي، بَل أُوَاسِي
بِشَكوايَ، مَن لا يَعِي أَو يُعِير
وكيف اتّعاظِي بِمَا راحَ مني
إِذا النّخلُ لم يَتّعِظ بالحَصِير!
وراء اكتِئابِي وحُزني رياحٌ
مِن البَحرِ، تَيَّارُها كالزَّفير
أُنادِيهِ: يا بَحرُ لا تَلتَقِمنِي
فإِني بِإهلاكِ نَفسِي شَهِير
وإِن كان قد جَفَّ ما كان ماءً
فمِن أَين تأتِي بِهذا الهَدِير؟!
ومِن أَيِّ طَرفٍ خَفِيٍّ تَراني
فتَهتاجُ في الحَرِّ والزَّمهَرير!
أُنادِيهِ.. لكنّه بين صَوتِي
وصَمتِي، طَلِيقُ التَّغابي أَسِير
وما البَحرُ إِلَّا أَبٌ لِلقَوافي
ولِلفُلكِ.. لا لِلمُنادِي الكَسِير
وقد يُقلِقُ البَحرَ صَوتُ المُنادي
كما يُقلِقُ الرَّاعِياتِ الزّئِير
ومُستَقبَلُ الشِّعرِ يبدو كَئِيبًا
كمُستَقبَلِ العالَمِ القَمطَرير
لَكَ الحَمدُ؛ إِنا وُلِدنا كِبارًا
كما يَنبَغِي، في زمانٍ صَغِير
لَكَ الحَمدُ؛ لكنّنا دون عَيشٍ
ولِلمَوتِ في كُلِّ بَيتٍ سَفِير
وهل نحنُ إِلَّا رَعايا إِمامٍ
رُزِئنا به، أَو سَبايا أَمِير!
فما مِن غَفُورٍ لنا إِن تَعِبنا
وإِن نَنتَفِضْ ما لنا مِن نَصِير
لك الحمدُ؛ إِن كان هذا دَلَالًا
فماذا تَبَقَّى لنا في السَّعِير؟!
على رأسِ فَلَّاحةٍ حَطَّ طَيرٌ
فقالت له: ليتَ أَنِّي أَطِير
وفي بالِ عصفورةٍ مَرَّ نَهرٌ
فنامَت، وما نام فيها الخَرير
ودَهرٌ على شاعرٍ مَرَّ، وهو اشـْ
ـتِياقٌ إِلى كُلِّ ما لا يَصِير
حناياهُ لِلنَّاسِ والأَرضِ عَرشٌ
وأَيَّامُهُ ناكِراتُ العَشِير
تأخّرتَ يا مَوتُ عنّا كَثِيــرًا
ولكنّه لَم يَفُتـكَ الكَثِير
تَفَضَّل.. فما أَنتَ إِلَّا مَلاذٌ
به يَتَّقِي كادِحٌ ما يَضِير
ولا تَدَّعِ النَّصرَ يومًا علينا
فلا مَوتَ إِلَّا بِمَوتِ الضَّمِير.