متنبّي الدراما التّاريخيّة.. في ذكرى وفاة الفنان السوري والمخرج حاتم علي
بقدرِ ما يحبُّ النقّاد أبا الطيّب المتنبّي، لكنّهم يأسفونَ دائمًا حينَ يتذكّرون أنّ صعودَه في القرنِ الرّابع الهجريّ كان سببًا في إطفاء خمسمئةِ شاعرٍ في عصرِه، ثمّ ظلّ العالم العربيّ قرونًا طويلةً وهو يفتقدُ إلى شاعرٍ بحجمه! كان هناك شعراء كثيرون بالطّبع، لكن لم يستطع أحدٌ منهم انتزاعَ ذلك الرّقم القياسيّ من المهووسينَ الّذي وصلَ إليه المتنبّي متفوّقًا على كلّ من جاءَ بعده، وربّما على من قبله أيضًا!
ذلك هو أنموذج المرحوم حاتم علي يتكرّر في سياق الدراما التّاريخيّة الّتي عكفَ على إنتاجها منذ مطلع هذا القرن عام (2000) مع مسلسل الزير السّالم وانتهاءً بمسلسل عمر عام (2012) مخلّفًا مجموعةً من الأعمال التّاريخيّة، بلغت ذروتَها في الجودة والإتقان مع ثنائيّته العظيمة مع الكاتب الكبير د.وليد سيف الّذي يصحّ أن نصفَه بأنّه “السّرّ” الّذي يكمُنُ وراء تميّز حاتم علي في تلك الأعمال..
كانت البداية مع الزّير سالم عام 2000، افتقد المسلسلُ -وفقَ كلّ من تابعه- إلى الصّياغة اللغويّة القويّة الّتي تمتّعت بها أعمال حاتم علي مع الدكتور وليد سيف لاحقًا؛ فقد أراد له كاتبه الدكتور ممدوح عدوان أن يكون ملحمةً شعبويّةً عظيمة تحظى بقلوب الملايين، وهو ما حدثَ بالفعل؛ حيث اجتمعت في المسلسل أدوات المخرج الكبير حاتم علي لتصنع منه ملحمةً حقيقيّةً ما زال النّاس مهووسينَ بها إلى اليوم، لا سيّما مع أداء سلوم حدّاد الّذي يتّفق كثيرون أنّ تاريخه الدراميّ كلّه في كفّة، ودوره في “الزير سالم” في كفّة أخرى! ومَن هذا الّذي لا يذكر صيحاته: يا لثارات كليب!
في 2001 كان مسلسل صلاح الدّين الأيوبيّ، وهو أوّل مسلسلٍ يكتبُه الدّكتور وليد سيف لحاتم علي. صحيحٌ أنّ مسلسلات الدكتور وليد سيف الّتي أخرجَها صلاح أبو هنود من قبل كانت عملاقة، لكنّ أدوات حاتم علي ولمساته كانت مختلفةً جدًّا؛ ففي صلاح الدّين الأيوبيّ رُبِطَ حاضرُ القدس بماضيها، واستطاع المشاهد في كلّ حلقة أن يبني أملَه الخاصّ في تحرير الأرض، وهو ما تُوِّجَ في الحلقة الأخيرة بمشاهد واقعيّة يهبط فيها الغرباء الجدد على الأرض المقدسة.
في عام 2002 بدأت السلسلةُ الأندلسيّة الأعظم بين د. وليد والمرحوم حاتم مع مسلسل صقر قريش؛ حكاية عبد الرحمن الدّاخل الأمير الأمويّ القويّ الّذي وحّد الأندلس وحدَه في قبضة بني أميّة من جديد، ثمّ في عام 2003 أنتِجَ مسلسلُ “ربيع قرطبة” الّذي حكى قصة المنصور بن أبي عامر الّذي استطاع وحدَه أيضًا أن يبسط سيطرته على الدّولة ويجعل من قرطبة أعظم عواصم العالم القديم. وفي 2005، أنجزَ العملاقان آخر مسلسلات السلسلة (ملوك الطوائف) الّذي حكى حكاية تفتت الأندلس إلى أن وحّدها المرابطون أخيرًا من جديد، وقد كتبنا في سابر مقالة عن هذه السلسلة سنضع رابطَها في التّعليقات.
لكن أثناء عرض السلسلة، فاجأنا المرحوم حاتم علي والدكتور وليد سيف عام 2004 بملحمة جديدة استطاع فيها حاتم علي أن يكرر ملحمة الزير سالم، إنّه التّغريبة الفلسطينيّة؛ حكاية العائلة القروية البسيطة الّتي عاصرت أحداث البلاد منذ ما قبل ثورة 36 إلى نكسة 67؛ بما فيها من ألمٍ وأمل، وبكاءٍ يعرفُهُ كلّ من شاهد المسلسل.
المحطّة التّاريخيّة الأخيرة بين المرحوم حاتم علي ود.وليد سيف كانت مع مسلسل “عمر” عام 2012؛ ذلك الإنتاج الضّخم الّذي فاجأ المتابعينَ كلّهم وترجمته الأمم الإسلامية الأخرى إلى لغاتها! إنّها حكاية الخليفة العادل عمر بن الخطاب، لكنّها ليست حكايته فقط، إنّها حكاية الإسلام منذ لحظات الدعوة الأولى إلى وصول الفتوحات إلى الشام والعراق ومصر! ملحمةٌ أخرى دقيقة استطاع فيها العملاقان أن يصوّرا تاريخ الإسلام لأوّل مرّة على نحوٍ صحيح؛ من الدقّة في الروايات التّاريخيّة، والعمق في الطّرح، وأهمّ ما في المسلسل أنّه ابتعد عن تصوير الحياة الجاهليّة بأنّها حياة مجموعة من السّفهاء والماجنين الجشعين منعدمي المروءة، بل قدّمهم كما كانوا على الحقيقة.
رحم الله حاتم علي في ذكرى وفاته الثانية..
واللهَ نسأل أن لا يطولَ عهدُ الدراما بالمتنبّي الجديد الّذي يظهر بعدَه!
*من صفحة سابر للعربية والأدب والتراث.