اليمن في عقل ووجدان (هواري بُومدْيَن)
لماذا تَمَنَّى قتال (الإمامة) في اليمن قبل (الاستعمار) الفرنسي في الجزائر؟
هذا هو السؤال الذي لا أزال أتذكره اليوم مثل كل عامٍ تمُر فيه ذكرى الرحيل الغامض لـ (هواري بومدين) الرئيس الجزائري الأسبق، رمز ثورة الفاتح من نوفمبر ونبراسها الخالد.
قد لا يتذكر كثيرون تلك الاهتمامات الفائقة لـ (بو مدين) تجاه اليمن كأول (جمهورية) في الجزيرة العربية، أهميتها كانت بوصفه حينذاك أحد أهم قادة وزعماء العالم العربي وحركة عدم الانحياز خلال النصف الأخير من القرن العشرين بعد (جمال عبدالناصر) وغيره ، كما مثّل مصدر إلهام في مختلف أنحاء المنطقة العربية إجمالاً.
مواقف بومدين (الاستثنائية) والمثيرة في دلالاتها إلى جانب اليمن تثير التساؤل حول الأسباب التي دفعت بذلك الثائر الثلاثيني إلى المخاطرة بحياته والذهاب إلى صنعاء في زيارتين تاريخيتين وسط ظروفٍ بالغة الدقة بالنسبة لليمن وللجزائر على حدٍ سواء؟
رغم البعد المكاني من حيث الجغرافيا بين اليمن والجزائر فقد كان الباعث على اهتمام بومدين باليمن هو خوفه على (الجمهورية) الوليدة ، الجديدة وقتذاك، وسط محيطٍ من الأنظمة الوراثية النفطية الغنية المتوجسة إزاء تطلعاته وتحولاته السياسية والاجتماعية أوائل ستينيات القرن الماضي.
بدى لافتاً بالفعل انشغال بو مدين، باليمن ،هذا البلد القصي، وذلك بعمقٍ إنساني لا شأن له بالسياسة فقط ، بل بالتاريخ وبالثقافة القومية للعرب كأمة ، ولا بتجاذبات الأقطاب في زمن الحرب الباردة يطمح إلى إحداث نوع من (التلاقي) بين أطراف شعوب أُمَّتِهِم.
بو مدين في صنعاء .. على ماذا القتال؟
في ذلك الجزء من مذكراته الذي قمت بتدوينه تحدث أول رئيس للجمهورية في شمال اليمن (عبدالله السلال) عن أنه خرج بنفسه لاستقبال بو مدين الذي كان لا يزال حينها (وزيراً للدفاع) في بلاده عند زيارته لصنعاء العام 1964 لإدراك السلال في وقت مبكر كما قال بأن “هذا الثائر العربي الزائر سيلعب دوراً محورياً استثنائياً في تاريخ ومستقبل بلاده”.
سألت السلال عن صحة ما تردد على لسان بعض مستقبلي بومدين من أنه بدى غاضباً بعد أن حطت به طائرته في إحدى الضواحي القاحلة وسط الغبار والحجارة والوجوه الشاحبة في محيط عاصمة الثورة الوليدة صنعاء، فأجاب السلال أن “مشاهد البؤس التي لاحظها بومدين من مخلفات الإمامة البائدة كانت صادمة له” لدرجة أنه التفت إلى السلال وسأله بألمٍ “كيف تتنازعون على أرضٍ كهذه لا يجوز أن يموت في القتال عليها كل هذا القدر من الشهداء؟”.
ومما أكده السلال أيضاً أن بومدين قال وعيناه تدمعان لهول ما شاهده من تخلف في اليمن ، وانعدام أبسط مقومات البنية التحتية لمطار صنعاء مقولته الشهيرة “لو كنا نعرف في الجزائر أن الشعب اليمني الشقيق مظلوم بهذا الشكل لكنُّا بدأنا بتحريره من الإمامة قبل تحرير الجزائر من الاستعمار” الفرنسي!
لم يكن اليمن موضع الاهتمام الوحيد لبومدين لكنه ظل غير معروف تماماً عندما طغت عليه مواقف بومدين العربية الأوسع نطاقاً ، خصوصاً تجاه القضية الفلسطينية، ودعم مصر خلال حرب أكتوبر تشرين الأول 1973.
تعامل بومدين مع شطري اليمن السابقين بـ (السوية) وبنظرة واحدة ، إلى صنعاء وعدن في زمن ما قبل وحدتهما التي كان يحلم بها ، وذلك على أساس أنهما تجربتان سياسيتان للعمل القومي لبلدٍ واحدٍ متنوع لا بد أن يتوحد يوماً.
بومدين في صنعاء
جاء بومدين إلى اليمن في توقيتين استثنائيين، وفي مهمتين خاصتين لهما علاقة بالتاريخ وليس بالضرورة بالسياسة فحسب.. أول تلك الزيارتين كان العام 1964 ، أي كما سلف، بعد عامين على قيام ثورتها ضد (الإمامة) العام 1962 حيث التقى قادتها الشباب الذين استضاف بعضهم لاحقاً كسفراء ودارسين.
كما استقبلت بلاده لاحقاً نحو 16 من كبار (الضباط الأحرار) اليمنيين في ما وصفه أحدهم في مذكراته ، وهو اللواء حسين المسوري بـ (المنفى الإجباري) وذلك عقب أحداث أغسطس المشؤومة عام 1968 حيث اعتقد المسوري وزملاؤه أن الجزائر ربما رأت في أن استضافة هؤلاء قد يمثل مصلحة للثورة اليمنية ومساعدة على إخماد الفتنة التي تسببت فيها تلكم الأحداث.
كما استضاف بومدين في الجزائر (قحطان الشعبي) أول رئيس لجنوب اليمن عقب الاستقلال عن بريطانيا عام 1967 ، وكان ذلك لإظهار دعم الجزائر لاستقلال جنوب اليمن الذي كان قد زار شماله سابقاً.
وفي ظني أن دعوة (الشعبي) لزيارة الجزائر لم تكن فقط بوصفه رئيساً لجنوب اليمن (المستقل) عن بريطانيا ، ولكن ايضاً باعتباره مناضلاً قومياً وحدوياً وصل إلى رأس السلطة في جنوب البلاد ، بعد أن كان قد شغل قبل ذلك منصب أول وزير لشؤون الوحدة في أول حكومة في شمال البلاد بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 .
قمة الجزائر اليمنية – اليمنية
في الـ 4 من سبتمبر 1973 إستقبل بومدين رئيسي شطري اليمن (الشمالي) عبد الرحمن الإرياني و(الجنوبي) سالم ربيع علي، وذلك في مسعى لنزع فتيل التوتر بين صنعاء وعدن والعودة إلى مسارات العمل على إعادة توحيد شطري البلاد بمقتضى إتفاقية القاهرة الموقعة بينهما في 28 أكتوبر تشرين الأول 1972 وبيان طرابلس الصادر عن لقاء الرئيسين اليمنيين في 28 نوفمبر 1972 .
الحمدي وسالمين
وتواصل دور بومدين هذا في التقريب بين قيادتي شطري اليمن ، فبعد ستة أشهر من وصول الرئيس الراحل أبراهيم الحمدي إلى السلطة في صنعاء ذهب بطائرة واحدة مع نظيره الجنوبي سالم ربيع علي لزيارة الجزائر في نوفمبر عام 1974 للمشاركة في احتفالاتها بالذكرى العشرين لثورتها ، ومتابعة ما تم التوصل إليه من تفاهمات بشأن تعزيز المسار الوحدوي بين الحمدي وربيع علي.
أما ثاني تلكم الزيارتين لبومدين إلى اليمن فكان حين عاد إلى صنعاء العام 1978 بعد أشهر من الغدر برئيسها الشاب (إبراهيم الحمدي) وذلك للاطمئنان على احوالها ، بعد وأدِ ما إعتبره بومدين بحسب (عبد العزيز بو تفليقة) أهم محاولة للحمدي في إنجاز استقلالية القرار اليمني ، ومن المؤكد أن تلك الزيارة جاءت بطلب من بومدين ، لا بدعوة من خلف الحمدي، المتهم باغتياله ، حيث كان بومدين يشعر أن اليمن بعد مقتل رئيسه الحمدي في وضعٍ لا يَسُرُّ ، ويكاد لا يسيرُ في الإتجاه الصحيح ،
لم يكن هناك من شك في أن بومدين يأتي في المرتبة الثانية بعد عبدالناصر اهتماماً باليمن وقلقاً على مصيره إثر (انفجار) ثورة البترودولار في محيطه الخليجي شمالاً ، واتساع نطاق الاضطرابات السياسية والأزمات الانسانية في محيطه الإفريقي جنوباً خصوصاً في السودان وإثيوبيا والصومال.
وطوال سنوات دفعتني إلتفاتات بومدين نحو اليمن إلى البحث جاداً عما قد يكون أساساً فلسفيا وإنسانياً مشتركاً وجامعاً بين منطلقات ونظريات وأهداف الثورتين الجزائرية واليمنية.
ومن خلال التأمل طويلاً في تعامل بومدين سواء مع ملف حروب الستينيات في شمال اليمن بين الجمهوريين والملكيين ، وفي جنوبه بين ثوار أكتوبر والاستعمار البريطاني ، أو أضابير الانقلابات المتتالية في صنعاء وعدن ، وكذلك بعد أحاديث وقراءات مطولة لمقابلات ومذكرات بعض مجايليه .. جزائريون ويمنيون وعرباً ، خلصت إلى استنتاج مؤداه ، أنه لم يكن لبومدين أو لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية أي امتداد سياسي أو فرع تنظيمي متحالف معهما في اليمن على غرار ما كان لحركة القوميين العرب، أو لحزب البعث العربي الاشتراكي بفرعيه العراقي والسوري، أو نظام العقيد (الناصري) الراحل معمر القذافي، ولا قادة عسكريون متنفذون ولا شيوخ قبائل نافعون، كما كان الحال ولا يزال تقريباً مع بعض دول الخليج النفطية الجارة ، بل كانت علاقات جزائر بومدين مع اليمن تقوم على أرضية واضحة .. دولةٌ جزائرية في مقابل دولةٍ في اليمن شجع بومدين على أن تكون صاحبة قرار مستقل ، ومع نظام جمهوري عادل سواءٌ “أكان هذا النظام جاء بانتخاب أو انقلاب” فذلك في رأيه شأن داخلي ، المهم أن يكون يمنياً خالصاً.
ولم يكن بومدين الذي يتزعم دولة نفطية غنية ، والمعروف بنزاهته الشديدة في ما يتعلق بإنفاق المال العام لبلاده يمنح الهبات والعطايا لأحدٍ في اليمن سوى للدولة اليمنية من خلال برتوكولات تعاون في مجالات شتى كان أهمها تعليم وتدريب مئات من شباب وشابات اليمن في مختلف جامعات ومعاهد الجزائر.
اليمن بين بومدين و بوتفليقة
لابد أن إرث العلاقة التاريخية بين بومدين واليمن انتقل إلى بعض رفاقه الذين خلفوه لاحقاً ، وإن كانت هذه العلاقة تأثرت بتقلبات الأوضاع في الجزائر ، لكنها عادت إلى سابق عهدها نسبياً ، فأحد معاصريه وهو (الأخضر الإبراهيمي) أسهم بدور لافت في الحفاظ على وحدة اليمن أثناء تمثيله الأمين العام للأمم المتحدة للتوسط في النزاع اليمني – اليمني خلال ما عرف بحرب الانفصال العام ١٩٩٤.
وتطور الأمر أكثر مع مجيئ سلف بومدين ورفيق كفاحه (عبدالعزيز بوتفليقة) إلى الحكم في الجزائر في إبريل نيسان العام ١٩٩٩، فبرغم اختلاف شخصية بومدين عن وزير خارجيته (بوتفليقة) إلا أنه لا يمكن فصل موقف أحدهما عن موقف الآخر في ما يخص قضايا اليمن والمشرق العربي كافة.
مالم استطع فهمه هو هل كانت الزيارات المتعددة لبوتفليقة إلى صنعاء (امتداداً) لاهتمامات بومدين باليمن أم أن لها صلة بصديقه (محمد سالم باسندوة) بطل التحرير الجنوبي السابق رئيس الوزراء ووزير الخارجية اليمنية الشهير ، الذي استضافه في صنعاء لمرات عدة ، أو أن لذلك صلة بعلاقته الوثيقة بالرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي كان يُنزل بوتفليقة مكانةً خاصة كرفيق سلاح لبومدين وبطلٍ في حرب تحرير الجزالر ، ولا يناديه دائماً إلاّ بـ (عبدالعزيز) من دون أي صفة تسبق إسمه، سواء قبل أو بعد توليه الحكم في بلاده.
ومما ذكره لي الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق (علي ناصر محمد) أن بومدين حثه خلال لقائهما في آخر قمة حضرها بومدين لما عرف بـ (جبهة الصمود والتصدي) ا في بغداد وقبيل ظهور أعراض المرض عليه عند العودة عبر دمشق إلى الجزائر .. حث الزعماء اليمنيين على “ضرورة التواصل بين القيادات اليمنية والجزائرية” في كل ما يهم مستقبل علاقاتهما الثنائية ومصالحهما القومية.
ختاماً
ليس هذا الحديث مجالاً للبحث في حياة بومدين الخاصة أو العامة فذلك ملف جزائري داخلي رغم أنه يحكي قصصاً تكاد تشبه الأساطير ، تُعبِّر عن بساطة الرجل من ناحية وعنفوانه وصرامته من ناحية أخرى .. قصص عن الصرامة المالية ونظافة اليد تكاد لا تصدق ، وحكايات عن الإباء والكرامة لا يتسع لها مجال.
كما أن تجربة بومدين في الحكم والسياسة ليست من مقاصد هذا الموضوع الذي لا يدعي أن تلك التجربة كانت افلاطونية أو مثالية سواء ما يتعلق منها بسياسات الرجل داخل الجزائر أو خارجها ، فهي بالتأكيد لم تكن، في نظر مؤيديه قبل منتقديه، خالية من الأخطاء والتجاوزات، التي ربما وقع في بعضها اعتقاداً منه أنه على حقٍ عند حدوثها ، في حين أنه ، مثل كل البشر ، لم يكن على الحقِّ دائماً.
التحية لأبو مدين في ذكرى رحيله ولروحه الرحمة والراحة والسلام.
*من صفحة الكاتب في فيس بوك.