إنقاذ اليمن بوقف الحرب
صار مكرراً القول إن الأوضاع البائسة التي بلغتها الأحوال في اليمن اليوم هي نتيجة طبيعية لما حدث بعد 2011 حين عجزت القيادات التي شاركت في الحكم بعدها على حماية هياكل مؤسسات دولة، وأمعنت في تجاهل أهمية تحييدها عن الحزبية، ولم تجتهد لتحصينها كي تقاوم الاهتزازات السياسية خلال وبعد فترة الاحتجاجات الشبابية فعرقلت أجهزة الدولة عن ممارسة مهماتها بكثرة التعيينات الحزبية بعيداً من معايير الخدمة المدنية.
وإذا كانت هذه الأجهزة قد تمكنت من تسيير أعمالها في العقود السابقة لمرحلة الاحتجاجات، وتمكنت من النجاة فلم يكن ذلك في جوهره إلا بالقدرات الشخصية للرئيس الراحل علي عبد الله صالح الذي أمسك بمفاصل الحكم، مستعيناً في مطلع توليه السلطة بكل القوى المؤثرة حينها، سواء أكانت حزبية أو شخصيات اجتماعية أو شخصيات قادرة على إدارة الحكم.
فقد سمح بمشاركة أحزاب عدة في الحكومات التي عملت خلال عهده، وكان شريكه الأبرز جماعة الإخوان المسلمين (ما صار يعرف لاحقاً بالتجمع اليمني للإصلاح).
وفي الوقت ذاته ثبت حكمه مستعيناً بأفضل نخبة عرفها اليمنيون من التكنوقراط الحقيقيين اللامعين والنزيهين مالياً مثل عبدالعزيز عبدالغني وعبدالله الأصنج ومحمد سالم باسندوة ومحمد سعيد العطار وحسن مكي وعبدالكريم الإرياني وعبدالوهاب محمود ومحمد الجنيد ومحمد جباري وعلي لطف الثور وحسين العمري ويحيى المتوكل ومحمد الكباب وكثيرين غيرهم.
اليوم لم يعد جائزاً الحديث عن بلد يقف على حافة هاوية سحيقة، لأنه واقعياً تجاوز مرحلة الخشية من السقوط فيها، وتشظى على كل المستويات، وأضحى صراع اليمنيين الحالي هو كبح جماح سرعة الانزلاق.
ويجب الاعتراف أنه وإن كانت الحرب مثلت دونما شك سبباً رئيساً لهذا الانهيار، لكنه ليس الوحيد.
فالواقع والأحداث تبرهن على أن استيلاء الحوثيين على كامل المؤسسات بعد التوقيع على (اتفاق السلم والشراكة الوطنية) في 21 سبتمبر (أيلول) 2014 كان العامل المحفز السابق للحرب الذي أسهم في تسريع الانزلاقات التي نشهدها اليوم.
وثمة سبب آخر مهم هو جشع الأحزاب وصراعها من أجل الاستيلاء على حصة داخل مؤسسات الدولة، منتهكة في اختياراتها القسرية معايير الخدمة المدنية، وقواعد التعيينات في الداخل والخارج، ولم تفكر أبداً في المصلحة الوطنية واضعة المصلحة الحزبية والشخصية في المقدمة.
فماذا عن اليوم؟
هو سؤال تبدو إجابته بسيطة، لكن التعقيدات تبرز حين نتحدث عن الحلول.
الواقع المعيش يقول إن الدولة اليمنية تعاني الشلل، فما عادت قادرة على أداء مهماتها الوظيفية الأساسية، وعاجزة عن تقديم الخدمات، التي تمنحها مشروعيتها الوطنية، واقتناع المواطنين بسلطتها، ولن أتحدث عن المشروعية الدستورية، لأنه مسار لم تسلكه حتى الآن.
وإذا ما اتفقنا على ذلك يصبح المطلوب هو البحث عن الحل الذي يجعل المواطنين شركاء في إدراك المصاعب التي تقف أمام تحقيق آمالهم وطموحاتهم، تلك التي تمنع عنهم الحصول على الأمان لهم ولأبنائهم.
وأول خطوة في هذا المسار هي مواجهة الناس وإطلاعهم على حقيقة الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد.
ومن الطبيعي ألا يقتنع بها الناس إلا إذا رأوا أن القيادات الحاكمة، تضرب المثل في النزاهة والجدية والتقشف في الإنفاق، ووقف العبث في الوظيفة العامة.
وفوق ذلك الوجود المستدام إلى جوار الناس طوال الوقت.
في عام 1965، شكل الأستاذ الراحل أحمد محمد نعمان حكومته الأولى، ولم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، لأن الحكومة المصرية لم تف بالتزامها تقديم العون المادي، بسبب اعتراضها على بعض الوزراء الذين كانت تصنفهم بالبعثيين واليساريين، لكن النعمان رفض تغييرهم حماية لسيادة البلاد، مفضلاً تقديم استقالته على الخضوع لضغوط خارجية.
وتكرر الموقف في أغسطس (آب) 1971، حين توقف الدعم الخارجي فور تكليف النعمان تشكيل الحكومة حينها فعجزت عن سداد مرتبات الموظفين، فتوجه إلى مجلس الشورى لبحث الأزمة، ثم خاطب الشعب مباشرة قائلاً (لن أكون كالنعامة التي تهرب من الصياد فتغرس رأسها في الرمال وجثتها كلها مكشوفة في العراء، ولن أكتم على الشعب الحقائق التي يعرفها أعداؤه وخصومه والطامعون فيه والدائنون له والمتصدقون عليه).
ومرة ثانية تقدم باستقالته حفاظاً على كرامة اليمين الدستورية، التي فضل احترامها على التمسك بمنصب رفيع.
إنني هنا لا أظن أن أحداً من المشاركين في هذه الكارثة سيتقدم بالاستقالة ولا أتوقعها، لكني أطلب منهم الصدق مع النفس أولاً ومع الناس، وهم يدركون أن المواقع التي جرى وضعهم فيها لم تكن نتاج رغبة شعبية أو توافق وطني، وهذا يشكل ضغطاً خانقاً عليهم، لأن الحصول على الأمرين يستدعي منهم إنجازات كبرى لا يمكن تحقيقها، بسبب الأوضاع المالية الكارثية التي فاقمت التهديدات الحوثية الجدية من آثارها في الإيرادات المالية، مما يجعل الحكومة عاجزة عن دفع مرتبات الموظفين في الداخل، ناهيك عن صرف الاستحقاقات الخارجية.
مدخل الحل الحقيقي لكل أزمات اليمنيين يستدعي بداية أن تركز كل الجهود على وقف الحرب نهائياً، وبداية ذلك فتح كل المعابر بين المدن، لأن ذلك في نظري سيشكل خطوة مهمة للتنفيس عن الاحتقان الاجتماعي، الذي تسببت فيه عمليات الشحن الإعلامي السلبي من كل الأطراف والتعبئة السياسية السلبية.
قد يكون الأمر صعباً، لأن مصالح مادية شخصية قد تضخمت، وصار قطع الطرقات جزءاً من مكاسبها المتراكمة.
وقد يكون مهماً ومفيداً الإمعان في التفكير لإعادة الهيكلة السياسية الحاكمة، لأن الحكم الجماعي لن يتمكن من تحقيق ما يرغب فيه الناس، بسبب تضارب الأهواء والمصالح والرغبات الذاتية.
*نقلا عن موقع “إندبندنت عربية”.