المقالح.. القلم الذي نزف حبا
كان أول لقاء لي بالمقالح وجها لوجه في عام ١٩٩١ في مقيل الأربعاء الذي كان ينظمه في مركز الدراسات والبحوث والذي كان بمثابة مختبر نقدي أنضج مئات التجارب الشعرية والسردية واستضاف الكثيرين من عمالقة النقد في الوطن العربي، كنت حينها في سنة أولى جامعة، لكن ما جمعني به بعد ذلك أكثر هو الدكتور عزالدين إسماعيل رحمه الله الذي كان أستاذا مشتركا بيننا، حيث أشرف على الدكتور المقالح في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات وأشرف علي عام ٢٠٠٠.
سيشهد التاريخ أن المقالح كان مشروعا شعريا استثنائيا قل نظيره أو انعدم، ليس في الوطن العربي فحسب، بل وفي العالم كله، سيمر وقت حتى نكتشف كم من المعايير الإنسانية والجمالية قد انهارت وأصبحت هباء برحيل المقالح الذي ودعنا دون ضجيج وبنفس الذات التي ما هانت يوما أبدا أمام المغريات والمناصب والمغانم وحب الظهور، قدم نموذجا في عفة الكلمة وطهر اللسان والجسد معا.
غادر قبل أن نبلغ الحلم، وقبل أن نستعيد الجمهورية وتركنا غارقين في كومة من الأزمات والانقسامات وكأنه يئس من استنساخ الجمهوريين ما يكفي من المآسي والانهيارات، فلا جمهورية ولا وحدة ولا دولة ولا انتخابات ولا شيء سوى صراع الأبناء على ما خلفه الآباء من إرث تبدد، حاول أن يستصرخهم ويقول لهم:
الصمت عار / الخوف عار / من نحن ؟ / عشاق النهار
سنظل نحفر في الجدار/ إما فتحنا ثغرة للنور/ أو متنا على وجه الجدار/ لا يأس تدركه معاولنا/ ولا ملل انكسار.
لا يهم كيف تفاعل الناس مع خبر وفاته ولا يهم أيضا من أرسل برقيات التعازي ولا يهم أيضا من مشى في جنازته، ولا يهم أبدا كونه ودع العالم وراتبه لم يصرف، فالشعراء لا يموتون، فقد مات الملوك وأعتى الدكتاتوريين وبقي الشعراء، لأن الشاعر يكتب اسمه بالخلود وهذا ما فعله المقالح، فقد سكن في صفحات الكتاب المدرسي وتتداول كلماته ومواقفه الأجيال، من سينسى:
سلمت أياديهم بناة الفجر عشاق الكرامة
الباذلين نفوسهم لله في ليل القيامة
وضعوا الرؤوس على الأكف ومرغوا وجه الإمامة
صنعوا ضحى سبتمبر الغالي لنهضتنا علامة.
مازال صوته الحزين يرن في أذني، والحزن في زمن الانتكاسات الشاملة والأحلام المجهضة يبد طبيعيا، بل ضروريا للتعبير عن حريق الوجدان تجاه كل المآسي، وأزعم أن مساحة الحزن المرصودة في شعره ناتجة عن إحساس عام بما يحدث لليمنيين ومن رغبة في تمثل عذاب الناس وترجمة أحزانهم، وقد ظلت ثقته بالكلمة لم تهزم في يوم من الأيام وهو القائل: إن الكلمة المعتصمة بمصداقيتها المطلقة تظل أقوى من أحدث الصواريخ ومن الدمار الشامل نفسه.
إن التاريخ سيقف طويلا أمام تحمل المقالح لكثير من الأذى ولصبره طويلا ورفضه إغراءات السلطة رغم أنها كانت بين يديه وتعامل بشرف وأمانة مع جسامة المسؤولية، فلم تهزه عواصف ولا رياح الفوضى التي ضربت اليمن في أوقات متفرقة، فقد كان جنديا حارب في كل معارك الوطن، كان عظيم الفعل قليل الكلام، شق طريق التنوير وسط عقول حجرية صماء، ولا يمكن للذاكرة الوطنية إلا أن تخلد اسمه في صفحات التاريخ، فقد كانت الكرامة معركته الأولى وتمكن من الصمود فيها حد الموت، هكذا قرر أن يموت بالقرب من جمهوريته المغدورة وهو يصرخ: الصمت عار/ الخوف عار.