يبرزُ جمالُ أيِّ عِقدٍ في شكله المتماسك، ويكون مكِينًا في صِنعَته حين ندفع حبةً وراء حبةٍ ثم ننظمها في خيطٍ متين ثم نُحكِم إيثاقه..!! ومتى ما ارتخى سَلسُه وضَعُف خيطُه وانفرطت بعضُ حباته منه، فمن المؤكد ستتبعها البقية في الانتثار والتساقط ليتنهي الارتباط بينها، وينتهي بالتالي جمالهُ المنسوج وبنيانهُ المرصوص.
وبالمثل عِقدُ الوطن (رقعته الجغرافية والانتماء له) الذي يستمد رونقه وجماله وتماسكه وصلابته من الارتباط الوثيق بين كافة محافظاته وسائر أبنائها إذ تُشكِّل كل محافظة وسكانها قطعة صغيرة تكمِّل بقيتها في خارطة الجغرافيا الشاملة الناسجة لوطننا الحبيب، والذي لا غنى لبعضه عن بعض، ولا تستغني لوحته الجمالية عن جزءٍ منه، وأيُّ محاولةٍ لقضم ذلك الجزء بأي وسيلة تتنافر والمسلك الدستوري المتوافَق عليه شعبيًا هو مساسٌ بالخطوط الحمراء المجرَّمة.
لقد شهدنا في الأمس البعيد حراكاً جنوبيًا مطالباً بانهاء الوحدة الاندماجية بين شطري الوطن، كما شهدنا بالأمس القريب حراكاً حضرميًا مطالباً بحكم ذاتي منفصلٍ عن الادارة المركزية للدولة، وبالمماثلة لذلك المطلب بدأت في غرب البلاد تعلو بعض الأصوات التهامية، وقريباً ستلوح في الأفق وتتكشَّف علانيةُ مطالبها. هذا فضلاً عن التجمعات المناطقية المعلن عنها في بعض المحافظات لصالح انكفائها على نفسها من خلال رفع سقف مطالبها المتمثلة في الاستحواذ على جزء خاص من الثروة السيادية لصالحها في إيحاءٍ ينذر بالتقوقع المناطقي الذي يمهد لانقسام الجغرافيا الوطنية.
وهكذا نلاحظ أن تلك التصرفات الآحادية وسقف مطالباتها المرتفعة ستؤدي بنا في نهاية المطاف لانفراط عقد التماسك والرباط الوطني لكافة التراب اليمني والانتماء له. إنه لمن المفارقات أن تسعى الدول لتقوية نفوذها وتوسعة رقعتها والنهوض بكياناتها اقتصاديًا واجتماعيًا في حين بوصلتنا في اليمن تتجه عكس ذلك المنحى، وإنَّ شر البلية ما يُضحك، كما قيل.
ندرك أنَّ هناك دوافعًا وراء ما يجري، بعضها داخلية تتمثل في مظلوميات حقيقية خلَّفها واقعنا المرير الذي نعيشه بفضل التداعيات السياسية وانعكاساتها على سيادة الدولة والأداء الحكومي، لكن ذلك لا يمنحنا حق رفع سقف المطالب لذلك الحد، كما أنه في المقابل لا يعفي قيادة الدولة ممثلة في مؤسستي الرئاسة والحكومة من تحمل تبعاتها ووجوب مسارعتها لحل تلك المعضلات وعقد جلسات حوارية مع أصحاب المظلوميات لرفعها وعدم الاستسهال في ذلك درءًا لتفاقمها. وبعض تلك الدوافع خارجية ينبغي التنبه لها وتفعيل الحس الوطني العالي إزاءها لتفويت الفرصة أمامها.
يجب علينا أن ندرك أنَّ الوطن يمر اليوم بوعكة صحية، وقد تدَاعتْ لها سائرُ البقاع اليمنية بالسَّهر والحُمَّى، ونالَ كلُّ أبناء اليمن قاطبةً نصيبٌ من ألم المعاناة وفداحة المكابدة التي انعكست سلباً على مقومات حياتنا المعيشية والأمنية والصحية والاجتماعية، وبِتنا نتأوَّه وبشدةٍ مما هو حاصل، وهو أمرٌ وبلا شك يوجب علينا أن نرفعَ أصواتنا عاليًا لتغيير هذا الواقع المرير، وعلى ولاة الأمر والقيادة الحاكمة أن تُصغي وتبادر لرفع تلك المعاناة وتجتهد في حلحلة المعضلات القائمة، وأن تسعى بضميرٍ صادق مُؤثِرةً المصلحة الوطنية العليا لرعاياها لتغيير ذلك الواقع البائس وبصورة عاجلة.
أما واجبنا كمواطنين، فيقع على عاتقنا جميعاً دون استثناء أن نحافظ على وطننا الجريح ونقف في صفه في أزمته وإلى جواره في محنته حتى يتماثل للشفاء من مكايدات السَّاسة وشقاءاتِ السياسة، ويعودَ اليمن السعيد الواحد الموحد كما كان قبل الطعنات والنكبات التي تعرض لها، ولا زال للأسف، فالأوطان هي أغلى ما تملكه الشعوب والمحافظة عليها واجب مقدَّس يعلو كل الواجبات بعد الدين، كما يجب علينا أن لا نتخطَّى الحواجز الدستورية في تطلعاتنا، فخرقُها يُنذِر بتآكل الدولة وتشرذمها وتمزيق ترابها الوطني الجامع لكل أبنائه، وأن نحافظَ بصدقٍ وإخلاص على عِقدِنا اليمني (وطننا الجريح) من الاِنفراط، وذلك أدنى حقوقه علينا.
..