مرّت صنعاء من أمامي حزينة… لا صخب، لا زوامل، لا شعارات… فقط وجوه متعبة تمشي خلف امرأة رحلت، لكن في جنازتها يمشي اسمٌ ثقيلٌ على قلوب خصومه.. اسم علي عبدالله صالح.
رأيتهم يمشون وكأنهم يسيرون خلف حلمٍ قُتل، خلف جمهوريةٍ طُعنت، خلف زمنٍ – رغم قسوته – كان أوضح من هذا الظلام الذي جثم على صدورنا.
قلت في قلبي، وأنا أعرف الجواب مسبقًا:
أكل هذه الجموع تمشي حبًا في أخت الزعيم؟ أم أنها تمشي وفاءً لذكراه؟ الجواب في العيون… في الخطى… في الدموع التي نزلت دون ضجيج.
نعم، هذا وفاء لرجلٍ مات وهو يعرف أنه لن يعود.
مات واقفًا، لا خائنًا ولا هاربًا.
واجه الغدر وحده، بسلاحٍ قديم، لكنه أشرف من ألف راية سوداء وألف كذبة مقدّسة.
علي عبدالله صالح… اختارك الموت شريفًا حين اختاروا هم الحياة كأشباه رجال، يتلحفون الوطن وهم ينهشونه.
اليوم، حين ودّعوا أخته، لم يكونوا يشيعون جسدًا فحسب، بل كانوا يلوّحون للتاريخ: “ما زلنا نذكر من وقف، ومن خان. من صمد، ومن باع. من أحب اليمن، ومن جعلها غنيمةً بين أمراء الظلام.”
لم أكن أكتب هذا النص بدمع العين، بل بدمع القلب… لأن الوجع ما عاد يزورنا، بل سكن بين ضلوعنا.
وسؤالي الحارق لا زال دون جواب:
لو كانت هذه الجنازة له، كيف كان سيكون المشهد؟
كم من قُرى اليمن ستبكيه؟ كم من رجالٍ سيأتون من الوديان والجبال ليحملوه على أعناقهم كما يليق بالزعماء؟
لكنهم لم يتركوا له حتى جنازة.
دفنوه في الخفاء، لأنهم كانوا يعرفون… يعرفون أن الأرض ستضج برجاله، وأن السماء ستهتف باسمه.
ولذلك… خافوا الجنازة، كما خافوا صراحته، وشجاعته، و”جمهوريته”.