رَسَّام العَصافِير الذَّي عَشِق المَراكز الأولى.. من قريةِ ريفيةِ معزولة إلى عاصمة الرَّوح صنعاء
محمد عبده الشجاع
يمن المستقبل / خاص
وانت تتبع حياة شخص ما له اعتبار، سواء كان صديقًا أو زميلًا أو رفيق درب أو أخ أو حتى معلمك الملهم، لا تنسى أن تخبر الآخرين مدى حبك له، كيف تبدلت حياتك بجواره، ما جدوى أن ينتشلك أحدهم من بين انياب اليأس ودهاليز القنوط ووحشة الأيام وحزاوي الأمكنة الخائبة، يمكنك أيضا أن تخبر العالم كله بصوت عال أنك تملك صديقا بحجم الحياة وأن العمر بدأ حين بدأتما معا.
لولاه ما ابتهجت الروح، ولا شَغُف العمر بالتجديف، ولا تعمد الوجدان أن يستعيد السيرة الأولى للألق، ولا ابتهلت النفس بالشموس، ولا سافر الغيم نحو البعيد من الزروع، يتفقدك في الحضور وفي الغياب كما لو أنك طفله المدلل أو أنك جزء منه وهو كل نبضك.
تستأنس إن سأل، تفرح إن هاتف، تُحلّق إن أمطر،
تغمرك طمأنينة عجيبة حين تلقاه على سفر، مبدع في الحديث لطيف المعشر جميل الابتسامة مزوح يحب التندر يحمل إليك صنعاء التي افتقدتها منذ سنوات كما لو انك فارقتها للتو.
هو ضمن عشرة إخوة ستة ذكور هم عبد المجيد عارف جعفر عبدالفتاح مختار وآخر العنقود شوقي واربع بنات، يتعامل مع السياسة كما لو أنها لوثة يعشق العمل ويحب الفكر والقلم.
حتى تكتمل الحكاية
تلك لوحة أردت إخراجها بشكل مختلف، لكن لم استطع أن اتحكم بمشاعري وعواطفي ولا بقلمي وفكرتي، التي أردت من خلالها؛ التعريف بالضوء، والتلويح للنهر وعمل البراويز بما يناسب هذه الروح التي تسري في الوجدان وسيكون لي معها لاحقًا وقفة متأنية، لتكتمل الحكاية وتبتهج الفصول.
الرَّسام حين يتحول إلى طائر
في الثمانينات درس الابتدائيه في المملكة، كان محبا للمواد العلمية متفوقًا يحب الرسم عاد لليمن ليواصل بنفس الشغف والمثابرة التي رافقته حتى تخرجه من بمعدل كبير التحق بجامعة صنعاء كلية الهندسة قسم الهندسة المعمارية.
الرصاص يحتفي بالتفوق
ذات نهار في التسعينات سمعت لعلعة رصاص وأنا على سطح بيتنا الذي يبعد بضعة أمتار وتحجبه بعض البيوت، سألت عن المصدر قيل ان الوالد الشيخ طاهر اسماعيل الشجاع هو من قام باطلق دفعة من الرصاص ابتهاجا وتعبيرا بنجاح إبنه عارف من الثانوية بدرجة عالية في القسم العلمي، لأول مرة أدركت معنى المنافسة ومعنى أن تتفوق في مسيرتك التعليمية وهناك من يحتفي بك على طريقته ولو كان بإطلاق النيران، يقدر عطاءك في منطقة معزولة عن العالم تفتقر للدعم والمنافسة نتيجة ضعف الوعي بأهمية التعليم.
مرت الأيام، زرت صنعاء لأول مرّة بعد العام 96 ولأول مرّة، تتبعت اخبار الرسام الذي اقتحم عالم الهندسة والمعمار، عرفت أنه ليس من السهل أن ترسم هدفك بنفسك أو بتشجيع بسيط من أسرتك وممن حولك وأنت القادم من ريف لا يعرف كثيرا بقيمة التعليم وأهمية التشجيع، كل من خرج من هذه البقعة والتحق بكلية مرموقة كان بمثابة معجزة وقد نجا من الفراغ.
أدى خدمة التدريس في مدارس ريفية بصحبة رفيقه فاروق، وبين منطقة الامجود شرعب السلام وجبل ايفوع من نفس المديرية اكمل خدمة ما بعد الثانوية، منطقتان قريبتان من مسقط الرأس كان هذا في التسعينات.
ظلت الرصاصات التي خرجت ابتهاجاً بالتفوق تسافر في الانحاء دون توقف، إذ لا يمكن أن تتوقف الفرحة عند حد معين، ما نزال في بداية المشوار، الرسام لا يزال ممسكا بالريشة يتلاعب بالالوان.
الأب والإبن محبة واعتزاز
عارف طاهر الشجاع أحد أبرز الشخصيات التي نعتز بها في منطقتنا وعلى مستوى أسرتنا، يمثل واجهة علمية وهو ابن الوالد طاهر اسماعيل الشجاع صاحب القلب الطيب والروح الكريمة.
لقد أبقت تلك الرصاصات على روح التنافس وليس كل الرصاص دافع للحياة وتفعل الشيء نفسه، كان المركز الأول هو الرقم والمكان الذي يتجلى فيه الفتى العاشق لرسم العصافير والطيور وحتى الديكة، بارعاً في البناء والتشييد، يتقن فن المجسمات وقد أبدع في مشروع التخرج أيام كانت الادوات تقليدية والأمر يتطلب جهداً كبيراً وإبداع متناهي، وكانت كل انحناءة بمثابة قوس نصر.
المهندسون يميلون للنرجسية، أعرف ذلك ولكن الأمر يستحق أحيانا إذا كان لديك ملكة، وعلى العكس كان المهندس عارف حسب معرفتي شخصية مرتبة جدا إلى درجة أنه لا ينام إلا وقد صف كل أدوات الهندسة التي يستخدمها والاقلام المختلفة وكأنه طفل في السابعة، معجب بأدوات الهندسة، الشغف الذي صاحبه يعكس واحدة من أهم علامات النجاح وامارات التفوق، رفض العشوائية والاتكال ومحاولة الاستقلالية ومنح الهدف مساحة ليس لها قطر، لا استسلام ولا استجداء.
عاش الفتى بين الشبلونات ذات الحواف المستقيمة والمنحنيات وكذلك المثلثات وطاولات الرسم الهندسي والمساطر التي تحمل حرف T وما أجملها مميزة جداً، وأقلام الرصاص والملونة والورق الهندسي ذو النمنمات المربعة، قبل أن يتم ابتكار كل هذه البرامج الخارقة.
معارك لا تعرف الهزيمة
في الحياة معارك كثيرة نخوضها وتذهب ادراج النسيان وحدها معركة العلم والمعرفة من تتحول إلى أسطورة مع تقدم العمر وتقادم الايام، وحتى يحين فوز المَلَكات وتفوق الدوافع يظل الحنين للمجد هو الكلمة الفصل والسطر الذي نختم به نهاية الرواية.
عُين معيدا في الكلية واستطاع أن يكون علاقة واسعة مع مئات الطلاب الذين أصبحوا لاحقا مهندسين بارعين خرجوا إلى سوق العمل بدافع وتشجيع منقطع النظير ليشقوا طريقهم نحو النجاح والاستقلالية، وحين أصبح يعمل في مشروع السايلة لم يبخل على أحد بالتوجيه والتحفيز والدعم وبث روح الأمل وعدم الاستسلام لما يثبط الهمم.
ومن مكاتب خاصة لإعداد الدراسات ورسم المخططات وأروقة جامعة صنعاء وقاعاتها إلى العمل الحكومي مع الاحتفاظ بموقعه كمدرس في الكلية، التحق بمشروع السايلة بداية مديرا للدراسات ثم مديرا للشؤون الفنية تحت إشراف أمانة العاصمة.
مشروع عملاق ومهندس متألق
يعتبر المشروع وحدة تنفيذية مستقلة يتشكل طاقمه من مجموعة مهندسين ومدراء من: الهيئة العامة للآثار، أمانة العاصمة، وزارة الأشغال، وزارة التخطيط، وبقرار حكومي، حسب هو على جامعة صنعاء.
استطاع أن يجعل من مشروع سائلة صنعاء الأول من حيث الأهمية والاهتمام من قبل القيادة السياسية إلى جانب المدير العام ونائب المدير وبقية الطاقم الذين كانوا بمثابة أسرة واحدة يجمعهم النجاح حتى وإن حدثت بعض التباينات.
تحول المشروع إلى خلية نحل، اوجد عشرات الفرص من العمل لكثير من الخريجين وفتح نوافذ للمدينة لم تكن على البال، بدأ بعمل احواض المياه وتشجير كثير من الأماكن وعمل حدائق مصغرة، اهتم بالجماليات ووضع اللمسات على الجدران وضفاف السايلة.
تفنن في إنشاء جسور المشاة وجسور عبور السيارات، وتم تعويض مئات المواطنين من أجل تحويل مجرى السيل إلى امتداد مستقل، يحافظ على جمال المدينة وممتلكات المواطنين ومقدرات الدولة، ويعطي بعدا فنياً مدهشا بالإضافة إلى عكس صورة مختلفة عن عاصمة الروح (صنعاء) عاصمة الجمهورية اليمنية.
تبدل امناء العاصمة من المسوري إلى أبو لحوم إلى الكحلاني ثم إلى الشعيبي ثم إلى عبد القادر هلال الذي استشهد في قصف الصالة الكبرى من قبل طيران التحالف، ويبقى المشروع روح التنمية وشريان حياة، ومع مرور الوقت يزداد القاء وبهاء حتى جاءت الحرب الملعونة، الحرب التي لم تبقي ولم تذر، ذهب من كل شيء أحسنه كما يقال وواجه المشروع العواصف والرياح، اغلق المقر الرئيسي تراكمت الإيجارات وأصبح الجميع أمام فقدان واحد من أهم الاراشيف لمشروع لا يمكن تسميته بغير (العملاق).
جمهورية واحدة في مشروع
كان في المشروع خليط من الموظفين وتوليفة تعكس صورة لم نقدرها جميعا كان فيه العبسي/ والحكيمي/ والمصباحي/ والاصبحي/ والعديني/ والخباني/ والسنحاني/ والبيضاني/ والخولاني/ والسياني/ والارياني/ والنهمي/ والمحويتي/ والصعدي/ والرداعي/ والحميري/ والذماري/ والريمي/ والضالعي/ والتهامي/ والكبسي/ والغرسي/ والارحبي/ والشامي/ والفران/ والشعيبي/ والحجي/ والماربي والشبواني وغيرهم من كل المحافظات.
اتسعت رقعة المشاركة والمشاريع بعد أن تلقى دعم من أمانة العاصمة وجهات خارجية ممولة آخرها الصندوق العربي الكويتي الذي استطاع بعلاقاته أن ينشئ الكثير من مقاطع السايلة العظمى الممتدة حتى مديرية أرحب ومطار صنعاء، إلى جانب بناء الحدائق والجزر المشجرة والمتنزهات وقنوات التصريف داخل الأمانة بالتعاون مع طاقم كبير من الإداريين والمهندسين والفنيين والمساحين والمحاسبيين الماليين.
شخصية البطل واهتمام القيادة
حظي المشروع باهتمام كبير من القيادة السياسية إبان حكم الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، ليصبح واحد من أهم المشاريع الإستراتيجية العملاقة، لعب الصندوق العربي الكويتي دورا بارزا في استكمال ما تبق مانحا الثقة لمجموعة من الفاعلين وسط ظروف شديدة التعقيد.
حمى المشروع المدينة القديمة بكل أبوابها وبيوتها من أضرار السيول، نجحت التصاميم والمخططات وتحقق الهدف بعد أن كان تدفق الأمطار من الجبال المحيطة والأودية مصدر قلق وخطر يتهدد الجميع.
وبرغم عدم وعي المواطنين بكثير من أهداف المشروع ومحاولة عرقلة العمل إلا أن الإرادة كانت أقوى وقد تم معالجة غالبية المشكلات، ليخرج مجموعة من المتفيقهين وطلاب سياسة مستجدين، أصحاب أفكار مأزومة يروجون بأن المشروع مؤامرة أمريكية من أجل استنزاف المياه وما شابه من تخاريف لا يقولها مجنون.
تم انتشال صنعاء القديمة من احتقان مياه الأمطار والصرف الصحي، والبعوض والحشرات والاوبئة والأمراض، تحول الأمر لشريان حياة منه طريق مروري مختصر ومنه ناقل للسيول المتدفقة ومنظر جمالي ساحر يعكس طابع المعمار لمدينة مسجلة ضمن التراث العالمي لدى اليونسكو ومتنفس للناس لو لا المضايقات، ومسرح مفتوح للفن والانشاد والمهرجانات.
سلام عليك عارف طاهر الشجاع وأنت تهندس بارقة الاماني وتعيد ترتيب الابجدية، تخمن ما تخبئه الزوايا، تمسح بكفك شرفات الندى وتلقي السلام على السنابل ثم تغني أين زهر الحالمين أين أيام الربيع الحانية.