أعتقد أن الحديث عن الجمال والفن والفضيلة لمن لم يجد وجبته منذ أيام لهو إهانة وترف فج أكثر منه نقاشاً فلسفياً، لأن من البديهي أن نقاش إنسان جائع سيكون في الخبز وقوت يوم أطفاله، وكل نقاش عدا ذلك بنظره سواءً كان حول الفنون أو الأخلاق فإنه يعتبر واحدة من عبثيات آلام صرخة معدة فارغة..
في بلاد جُل ساستها لا تعنيهم السياسة إلا بالقدر الذي يضمن لهم البقاء كأدوات طيّعة في يد أرباب النعمة، ولا رصيد نضالي لهم سوى معارك وهمية في مواقع التواصل تتجلى تارةً في أزمات “جروب واتس لمجلس نواب إفتراضي” وتارةً أخرى في سجال عقيم حول أداء “فتاة يُقال أنها فنانة” وأخيرا معركة “فسبوكية” بين مؤيدي ومنتقدي ظهور “شاب تفوقت صورة وجهه العادية جداً على صوته الأقل من عادي بمراحل ضوئية”، بينما تحيط به راقصات بشعات يقدمن نسخة بائسة من الإغراء، ليس لشيء بل لمحاولة جذب أكبر عدد من المشاهدات والتصدر كترند مناسب لمتطلبات شهرة هذا الزمن..
بطبيعة الحال جميعنا هنا في هذا العالم الافتراضي، بشر وبحاجة إلى وسائل نملئ بها خواء الزمن، سواءً عن طريق إظهار وجهة نظرنا “الصائبة دائما بالطبع” أو حتى إنتقاد من لا يروق لنا ولو كان على حق، بين الحاجة للمعنى والبحث عن الملهيات بإمكاننا تقبل هذا من بعضنا بل ونتسامح معه بإعتباره جزء من جوهر الإختلاف، لكن الكارثة تبدأ عندما يصبح هذا الأمر وظيفة من يديرون شؤون البلاد لنراهم يدلوا بدلوهم “الغبي كالعادة” تجاه كل شاردة وواردة لا تفيد ولا تهتم بمستقبل اليمن من قريب أو بعيد أو مسؤولياتهم المناط بهم أدائها، هنا يجب علينا التوقف قليلاً أو ربما كثيراً والتهادن مع مواد “ترنداتنا” وصب غضبنا ولعناتنا عليهم فردا فردا…
لست هنا لشخصنة الأمور، لكن يكفي أن نلقي نظرة على مشهدين متناقضين خلال هذه اليومين لنفهم مدى إنحطاط هذه المرحلة. مثلاً في أحد المشاهد نجد محافظاً لإحدى المحافظات التي تسيطر عليها مليشيا الحوثي، ويتحصن فيها كبار مجرمي الحرب والإرهاب، وينتظر على تخومها آلاف الجنود والقادة لساعة الصفر واللحظة المناسبة لإشعال الحرب، لكن هذا المحافظ قرر أن يترك كل هذا جانبا وينشغل بمهاجمة أحد “الترندات”، متحدثاً بلغة سوقية رديئة، وكأن دوره الحقيقي ليس إدارة شؤون محافظة مهمة عسكرياً وجغرافياً، بل تصدر مشهد التفاهة الوطنية. وليس هذا فحسب بل إنه، بدلا من تحمل مسؤولياته السياسية والعسكرية، استغل سلطته لتعيين ابنه سمسار تجنيد وهمي يقتسم رواتب الجنود الفقراء معهم بالتساوي وكأنها غنائم حرب شخصية.
وفي الجانب الاخر، صورة لطفل في مدينة إب يفترش الرصيف بجوار جثة والده الذي مات من الجوع، ولم يدرك أحد ذلك إلا عندما حاول شخص ما تقديم الطعام له. المفارقة العجيبة أن هذا المشهد لم يحظ حتى بعُشر التفاعل الذي حظيت به معارك التفاهة اليومية، رغم أنه يعكس قمة المأساة ويملك من الرمزية ما يكفي ليكون صرخة في وجه العالم الذي مازال متمسكا بالسلام مع الحوثي.
لولا غباء النخب لما استمرت المليشيا الحوثية أكثر من عقد. ولولا يقين هذه السلطة بأن الشعب في سبات وأن لا أحد يحاسبها لما تجرأت على هذا القدر من الوقاحة. ولولا أننا كما نحن، لما كانوا كما هم.