منبر حر لكل اليمنيين

حكايتي مع امرأة اسمها فلسطين!

د.سعاد محمد الصباح

13

عندما أمدّ مائد الطفولة.. وأجلس على أطراف الحنين.. أتذكر تلك المرأة التي كان يحبها أبي.. وأرى بسببها ملامح الحزن في وجه أمّي، فتثير غيرتي وتفجّر البراكين في أعصابي..!

كيف لأبي أن يعشق امرأة أخرى، وأنا التي أعرف وفاءه وحبّه وإخلاصه لأمّي..؟!

كيف تسللت تلك المرأة إلى قلبه، واستطاعت أن تخطف مشاعره وتنافس أمي؟.. أمّي شيخة الثاقب التي كانت تسلب الألباب بحضورها وجمالها وقوة شخصيتها وبهاء حديثها!

ماذا تعني تلك المرأة لأبي.. هل جذبته شهرتها واسمها الفريد من نوعه؟ أم ماذا؟

من هي؟.. أين تسكن؟.. هل لها شَعر مثل شَعر أمي، وعينان ساحرتان مثل عينيّ أمي؟!

أرتب تفاصيل الذاكرة.. وأطوي أوراق الزمن، لأستعيد تلك اللحظات التي تجمعني بعد العشاء مع أمي وأبي.. أجلس بينهما مثل قطة سيامية، حين يبدآن بتدوير موجة الراديو بحثاً عن محطة ما.. فأسمع عبارة: «هنا لندن» وكلمات تطرق أذني لأول مرة: بريطانيا، أمريكا، إسرائيل.. وعد بلفور..

ثم يحضر اسم تلك المرأة التي تجعل يد أبي تتسمر فوق محرك بحث الراديو الذي لا يفارقه:

(فلسطين)..

آآآه.. هذا هو اسمها!

هذه هي المرأة التي يحبّها أبي وتحرّك كل مشاعره.. وتعيش في وجدانه، يردّد اسمها، ويدعو لها.. فألتفت إلى وجه أمي فأرى عينيها السوداوين الواسعتين تغرقان بالدموع..

لماذا إذا جاء ذكر فلسطين فاضت عيناها الجميلتان..؟

كنت أطالع أمّي وهي تتألم!

لماذا لا تحتج.. ولا تحاسب أبي على حبه لغيرها، ولا تعاقبه أو تعاتبه على انشغاله بها؟

لم أكن أستطيع النوم وأنا أشتعل غيظاً وغيرة من تلك المرأة التي تسمى فلسطين!

سأنتظر الصباح وأذهب إليها.. سأصرخ في وجهها: ابتعدي عن أبي! قلب أبي ليس من حقك!

لكن أمي تزداد حباً لأبي وتعلقاً به!

هل هناك سر؟

بالتأكيد هناك سر، تكشفه زوايا المصادفات..

فحين ذهبنا من الكويت إلى البصرة لزيارة بيت جدّي لأمّي.. لاحظت أن بيت جيرانه اليهود قد أصبح مهجوراً لا حياة فيه!

أين ذهبوا؟

ثم سمعت من يقول: إنهم هاجروا إلى فلسطين.. مثل غيرهم من يهود العالم!

هكذا ينكشف السر.. وتشرق شمس المعرفة.

عقلي الصغير لا بد أن يستوعب المآلات، ولا بد للطفولة أن ينضجها الوعي..

عرفت أن فلسطين التي أغار منها ليست امرأة.. بل هي قضية ومبدأ وإنسان.. وحالة ظلم، وجور واغتصاب أرض!

عرفت ماذا يعني احتلال، وماذا يعني تهجير، ومنفى، ومخيمات، ونكبة 48، وفلسطينيو الداخل، وفلسطينيو الشتات.

وسمعتُ بالاستيطان وبالمقاومة..

وعرفتُ معنى القدس والمسجد الأقصى ومسرى النبي عليه السلام والبراق.. وحائط البراق.

ركض العمر.. وعرفتُ أن المؤامرة كبيرة جداً!!

أصبحت أتابع الأخبار، وأقرأ عنها حتى صرت جزءاً منها، وصارت جزءاً من كياني وتكويني..

وصارت فلسطين حبيبتنا جميعاً وليست حبيبة أبي وحده..

وهي حبيبة أمي، ليست غريمتهما..

وصرت أبكي معها كلما مرّ ذكرها.

التصقتُ بها أكثر.. ورهنت العمر ثمناً لدموع أمي التي ذرفتها حزناً على فلسطين..

وصرخت بالأرض كي تغضب.. لأن الأرض لا يفلحها إلا الغضب..

لأن فلسطين ستكسر قيدها.. ولأن أطفال فلسطين يجب أن يعيشوا طفولتهم مثل بقية أطفال العالم..

ثم وضعت يدي بيد رفيق العمر وصديق الزمن الجميل الشيخ عبدالله مبارك الصباح..

كانت كتفه القوية هي الأمان الحقيقي.. والحب الحقيقي.

وضعني تحت جناحه وطار بي إلى العالم.. أحلّق معه بالفكر والعمل والأمل، أحمل معه همّ العروبة وقضايا الإنسان، وأحلام البسطاء، وأمنية عميقة أن تتوحّد الصفوف وتأتلف قلوب الشعوب لتكوّن قوة تفرض هيبتها واحترامها على العالم.

وقرر في بدايات زواجنا أن نذهب إلى القدس.. انطلقنا من الكويت إلى لبنان ثم الأردن، ثم فلسطين..

صلينا في الأقصى وتعاهدنا أن نكون شوكة في حلوق المعتدين..

كانت فلسطين قضيته التي لا تغيب.. مثلما كان العرب انتماءه الذي لا يحيد.

جابه إسرائيل بشكل صريح وواضح عندما أعلن في تصريح رسمي أن نفط الكويت لن يصل إلى إسرائيل.. وامتدت يده بتبرّعات سخيّة تدعم النضال الفلسطيني..

تعلمت منه كيف يكون القتال بالفكر، وكيف يكون العمل.. ورأيته يوزع المحبة على الإخوة من فلسطينيي الشتات، ليكون بيتنا بيتهم في كل مكان.. فأينما وضعنا رحالنا كان ضيوفه من الفلسطينيين المغتربين يعجّ بهم المكان..

في بيروت كان مجلسه مشرّعاً للفلسطينيين مثل قلبه الكبير..

وفي مصر، وسويسرا، ولندن..

أمّا الأماكن التي لا يصل إليها فإنّه يتواصل معهم فيها عبر الهاتف أو يرسل من يطمئنه على أهل فلسطين.. ويبشرهم بأن العودة إلى الأرض لا بدّ منها طال الزمان أم قصر، وأن إسرائيل دولة طارئة مصيرها إلى الزوال، ويذكّرهم بقضيّتهم ويوصيهم ألا تنسيهم الغربة أو انتماؤهم لوطن جديد قضية فلسطين.

أصبحت أدافع معه عن فلسطين بالروح والجهد والمال.. وهو الذي علمني في مدرسته العريقة كيف أترجم مشاعري على أرض الواقع.. وأن أجعل فلسطين قضية مهمة في حياتي.. وعشنا معاً أيام النكسة بكل آلامها وجروحها.. ووقفنا بكل ما نستطيع أن نقف في صفوف المقاومة الأمامية ضد الاعتداء الصهيوني..

في تلك اللحظات قرأت الحزن في وجه الجبل.. كما رأيت القوة والإصرار..

وهو الذي دفع الثمن حين أثار غيظ بريطانيا في عروبته وقوميته وتمسّكه بمبادئه ودفاعه عن حرية فلسطين.. ولم يندم يوماً على الثمن الذي دفعه.

في أيام النكسة قرأت الحزن في وجه الجبل.. كما رأيت القوة والإصرار..

وفي حرب 1973 علمني كيف أكون في الميدان، مع المقاتلين، على خط المواجهة الأمامي نلتقط من قناة السويس الجرحى، ونواجه الصهاينة بنظرات تقول لهم: إن المعركة مستمرة، وإن هزيمتهم قادمة لا محالة.

كانت فلسطين حبيبته..

ولم أغضب حين كانت تنافسني على قلبه!

ولم أغضب حين كانت حبّه الأول..

وكم سعدت حين اقترح أن نخصص جوائز للمبدعين من شباب فلسطين.

وكم سعدت أن ننشئ داراً للثقافة تخدم العلم، وتخدم الإبداع الفلسطيني في جزء من عملها..

وكم سعدت أن أعمل في ذكراه مع وقفية القدس.. لخدمة فلسطينيي الداخل.. ولتثبيتهم على صمودهم..

وستبقى فلسطين حرة..

وسيرحل المغول..

١٥ فبراير ٢٠٢٥

تعليقات