منبر حر لكل اليمنيين

عن الرئيس علي عبدالله صالح وعن حال اليمن من بعده

مصطفى المخلافي

57

عن علي عبدالله صالح، عن الزعيم أكتب، عن مشاهد اليأس والقهر أتحدث، عن الفقر والجوع والألم أكتب، عن الفراغ الذي داهمنا بعد الرحيل، عن الضياع وانعدام السيادة، عن فقر ابجديات السياسة وغياب القادة أتحدث، عن الفخر والاعتزاز الذي مُنحناه في حياته وبعد رحيله.

هل تعلم سيدي الرئيس أننا نعيش اليوم بعد رحيلك نشوة خاصة في كل مرة يُطلب منا الحديث عن عهدك، فنقول بإبتسامة وفخر لا شئ إلا أننا نتذكر بأنكَ الوحيد من منحتنا فخر الاعتزاز بكوننا يمنيين.

نحن هُنا المشردون في أكثر من دولة ننتمي لعهدك ولدولتك ونظامك الذي مُنحنا فيه حرية الرأي والتعبير والمشاركة دون أن نخشى على أنفسنا من السجن، أكتب لك فخامة الرئيس صالح في وقت أصبح فيه اليمني يشعر بالخوف والقلق كلما حط رحاله في مطار دولة ما، لا لشيء سوى لأنه يمني بلا رئيس أو حكومة، ونحن الذين كنا نسافر في عهدك دول عدة دون أن نفكر في إجراءات المطار أو نخاف من ذلك، هل تعلم سيدي الرئيس أننا أصبحنا ممنوعين من دخول أغلب دول العالم، وبأن الدول التي منحتنا دخولها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، هل تعلم أننا أصبحنا ننام والخوف يلتحفنا خوفاً من قذيفة تسقط علينا، أو من مسلح يقتحم بيتنا ويسلبنا حياتنا، هل تعلم بأننا أصبحنا لا نملك المال في بيوتنا، وبأن الراتب الذي كان يتقاضاه الموظف في عهدك أصبح لا يكفي وجبة غداء لأسرة مكونة من ثلاثة أفراد، أكتب لك وأنا أعلم بأن هناك ملايين من الأسر الفقيرة تدعوا لك الآن وتتمنى عودتك ليتوفر لهم الغذاء والدواء والنوم الذي حُرموا منه لأكثر من عشرة أعوام.

أكتب لك فخامة الرئيس علي عبدالله صالح ونحن نعيش بلا أدنى مقومات الحياة التي كانت متوفرة في عهدك، أكتب لك عن قصص مأساوية لم تعيشها شعوب المنطقة قط، تخيل سيدي الرئيس أن من يحكمونا اليوم يتقاضون مرتباتهم من دول خارجية، الرئيس ونوابه وكل موظفي الدولة، وهذا الأمر كفيل بشرح معاناتنا.

طفلة صغيرة تبلغ من العمر ١١ عام، كنتُ يوم أمس عائداً إلى البيت على متن المواصلات العامة، لمحت مُسن كبير في العمر يصعد للباص وبجانبه طفله يبدو عليها التعب والمرض، إقتربت منهم وبدأت الحديث معهم كأي حديث مع زائر جديد لهذه البلد، قال لي نحن وصلنا قبل يومين للعلاج، وبدا الحديث يأخذ منحنى آخر، عن عهد الشهيد صالح، وعن عهد الثمانية وقبلهم هادي، في هذه الأثناء قالت لي الطفلة وبلهجتها الصنعانية البسيطة، عفاش ليش سار وخلانا؟ جدو يحكي أنه كان طيب وكنا مفتهنين أيامه، تركت لها ولجدها مجال الحديث، كانوا يتحدثون وأنا منصت لهم، بدا حديثهم وكأنه حديث أقوام توارثوا القهر ووجع السنين، وكأنهم صُلبوا عُقود من الزمن، كان الألم يسبق حديثهم، وكأن رحيل صالح سلب منهم حياتهم، كنت أحدق في عيونهم وأرى فيهم القهر الذي تخندق في نفوسهم وكابدهم، هكذا أصبح حال صغارنا وكبارنا سيدي الرئيس من بعدك، أصبح الوجع والغُبن ظل يرافق الجميع.

في بداية ديسمبر الماضي قضيتُ يوماً كاملاً سيدي الرئيس لقراءة سردية رحيلك، وعندما وصلت إلى لحظات استشهادك، بدأت البحث عن اليمن، لأجد كل شيء بات مختلفاً من حولي، أغلقت المدارس والحدود، تقسم الناس وتفرقوا، تشرذم المجتمع وتمزق، توقفت الحياة، بتنا نعيش في آخر ذيل العالم، لم نعد نسمع عن الرئيس، ولا عن الجيش، ولا عن الأمن، ولا عن افتتاح المشاريع، ولا عن الحكومة واجتماعاتها، ولا عن البرلمان ومناقشاتهِ للأوضاع والقوانين، أكتب لك ولدينا ثمانية رؤوساء يعيشون خارج اليمن، ومن داخل اليمن لديه جيشهِ ودولتهِ الخاصة، حتى القصر الرئاسي الذي كنت تستقبل فيه الوفود والزوار، لم يعد موجود، وباتت الفنادق الخمس نجوم هي مسكن الرئيس والحكومة، أصابنا الوهن من بعدك، وأصبح لدينا شعور مختلف بوضعنا ومكانتنا في التاريخ، شعور يختصره كرسي الرئيس الذي يجلس عليه في فندق في دولة مجاورة.

حتى في الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية فخامة الرئيس صالح، لم يعد يطل علينا الرئيس من داخل قصر دار الرئاسة في العاصمة صنعاء ليلقي علينا خطاب، وللعلم فخامة الرئيس كنت آخر من ألقى خطاب بمناسبة عيد الوحدة اليمنية، وكنا آخر من احتفل معك، ولذلك هذه المناسبة تذكرنا بك، كأول وآخر قائد يمني وعربي وحد وطنهِ وشارك شعبهُ احتفالاتهِ الوحدوية على مدى ثلاثة عقود وحتى آخر يوم في حياته.

أتعلم يا فخامة الرئيس
أن شريان الحياة الذي كان يربط كل محافظات الجمهورية ببعضها تم قطعه وفصل أغلب المحافظات عن بعضها، أكتب لك وهناك ملايين اليمنيين يقطعون ساعات طويلة للوصول لأهاليهم في الجهة المقابلة، بينما يستغرق الوقت ساعة وربما بضع دقائق  على الطريق الرسمي الذي كنا نسلكه في عهدك، أتعلم أن صنعاء باتت من بعدك وكأنها عاصمة لدولة في أوروبا يصعب الوصول إليها؟ لقد حُرم الملايين من دخولها خوفاً من بطش الإرهاب الحوثي، ولك أن تتخيل أن تعز ومأرب أيضاً أصبحتا مُدن بعيدة يصعب دخولهما طالما وأنت معارض للتنظيم الإخواني، حالهما كحال صنعاء، لم يعد القانون له وجود، لقد تبدل حالنا إلى أسوأ حال.

أتعلم يا فخامة الرئيس صالح
أن الخدمات الأساسية منعدمة، وأن الماء والكهرباء أصبح من النادر مشاهدتهم في محافظات الجمهورية، أتعلم أن أهالي المحافظات الساحلية يموتون من الحرارة كل عام بسبب غياب الخدمات، وأن المكيفات التي كانت في عهدك تدفع الحَر عن سكان هذه المدن تحولت إلى خردة نتيجة انعدام الكهرباء، والأمر من ذلك أن الناس أصبحت مجبورة على التعايش مع هذه الأوضاع خوفاً من الإعتقال أو القتل، ولسان حالهم يقول لو أن خبر رحيلك كان حلماً.

وأنا أكتب لك الآن فخامة الرئيس صالح
وهناك ملايين المشردين داخل الوطن وخارجه، منهم من فر من بطش الجماعات الدينية المتطرفة لخارج الوطن، ومنهم من فر لمحافظات أخرى داخل الوطن، وهنا نستدعي الذاكرة كيف تعاملت مع خصومك وهم يحرضون ضدك ويكيدون لك الشر من داخل ساحات الاعتصام، لم تطارد أحد، ولم تلاحق قادة العصابات والجماعات الذين كانوا يحرضون الشارع ضد مؤسسات الدولة، حتى حين حاولوا قتلك كنت الرئيس المسؤول عن شعبه، لم تنتقم، لم تلاحق، لم يصدر منك ايةً ردة فعل مماثلة، تصرفت كقائد مسؤول عن أرواح ودماء ملايين من شعبه، حملت رفات ألمك ووجعك، وطرت بجسدكَ المليئ بالحروق، وأنت تردد ولا طلقة واحدة، أكتب لك وهناك الآلاف في سجون الحوثي والإخوان، لا لشيء سوى لأنهم عبروا عن رفضهم لهم، أكتب لك وهناك ممن كانوا خصوماً لك غير شرفاء يقبعون في سجون الحوثي، منهم من قتل ومنهم من تم إذلاله وكسره، ولكي لا أنسى فخامة الرئيس، لقد وصل صرف الدولار من بعدك مقابل الريال اليمني إلى ما فوق الألفين ريال يمنى أي ما يُعادل ٢ مليون ريال يمنى وأكثر للألف دولار.

يبدو أن وجع ما أصابنا من بعدك سيدي الرئيس يتم احتشاده إلى حالة مأساوية مثيرة، لكن هذا الشعور هو بداية طريقة أخرى للانعزال والتخفي عن العالم، أتدري يا صالح أن هناك ملايين اليمنيين تحت خط الفقر، وبحسب تقارير أممية فإن أكثر من 80% من اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، لم نكن في عهدك نتحدث عن انعدام وجبة الغداء أو الفطور، اليوم أصبحنا نتحدث عن كيفية توفير ولو وجبة واحدة على الأقل في اليوم، وهناك منظمات وفاعلين خير يوزعون وجبات طعام للأسر الفقيرة التي تفتقد للماء الصالح للشرب، أتعلم يا فخامة الرئيس أن أغلب الشعب اليمني حولتهُ الحرب لطابور على أبواب المنظمات، وبأن الكيلو الرز والسكر وكيس الملح الذي لا يساوي سنت دولار أصبح عند أغلب الأسر اليمنية صعب الحصول عليه، لقد تكاثرت علينا الهموم، وبات العيش في اليمن من بعدك كمن يُصارع فوهة بركان، إما أن تلتهمهُ النيران أو أن يحترق وهو يبحث عن ما يسد جوع فلذات كبده.

اتعلم سيدي الرئيس من بعد رحيلك ماذا فعل الخوف والجوع بنا؟! أصبح كل شيء في هذا البلد يُخيفنا، أتعلم أيضاً ماذا فعلت الأوبئة والمجاعة بشعبك؟! وكيف تعامل المسؤولون مع هذا الأمر، إحساس مميت أن نشعر بأننا جميعنا عالقون في زاوية ضيقة ولا نجد من يتفقد أحوالنا كما كنت تفعل، وكأننا نكتب روايتنا الأخيرة على هذه الأرض، والجلاد ينتظرنا في نهاية الممر ليقتلنا قبل أن نُنهي آخر سطر من معاناتنا.

 

تعليقات