خلال نظام الرئيس علي عبد الله صالح في اليمن، كان يُعتقد أن السلطة، وبالذات المؤسسات الخشنة، تقع تحت هيمنة “منطقة الهضبة”، وجماعة الإخوان المسلمين. وبعد سقوط نظام صالح، خططت ونفذت أطراف عديدة، من أهمها: الرئيس الكارثة عبد ربه منصور هادي، والأحزاب اليسارية بزعامة الحزب الاشتراكي، وبعض القوى المناطقية، لهيكلة المؤسسات الخشنة، تمهيدا لتفكيك الجمهورية اليمنية، تحت لافتة الدولة الاتحادية. ولتنفيذ ذلك المخطط، تحالفت تلك القوى، فعلياً وضمنياً، مع المليشيات الحوثية، وقامت بتسليمها العاصمة صنعاء.
وكما هو معروف فقد نتج عن ذلك، تفكيك الجمهورية اليمنية إلى كانتونات متصارعة تديرها الدول الأجنبية. وحتى الوقت الحالي، لا زالت القوى التي تحالفت مع الحوثي، تعتقد أن بقاء الجمهورية اليمنية، ممزقة، ودون سيادة، أفضل من أن تعود دولة واحدة تهمين عليها “الهضبة” من جديد.
وفي السودان، هناك أوضاع مشابهة لما حدث ويحدث في اليمن؛ فمنذ اندلاع الحرب التي أدت إلى تفكيك الدولة، ظهرت أطراف سودانية عديدة ترفض عودة سيطرة “الجيش السوداني”. وحجتهم في ذلك، أنه لم يعد جيشاً وطنياً منذ أن سيطرت الجبهة الإسلامية القومية (النسخة السودانية النشطة لحركة الإخوان المسلمين) على الحكم عبر انقلاب يونيو 1989. وهذا صحيح، فمنذ ذلك الانقلاب، عمد نظام (الجبهة) بقيادة البشير، إلى “أخونة” الجيش. فتم تسريح الضباط غير الموالين، وأصبح معظم الملتحقين بالكليات العسكرية من أعضاء التنظيم، أو *المقربين* منه. وأدى ذلك عملياً، إلى خلق جيش حزبي.
لكن، ولسوء حظ السودان فإن الجيش الحزبي، هو الطرف
الوحيد القادر، موضوعياً وفنياً، على إنهاء الحالة المفككة للدولة، ومن ثم استعادة الدولة السودانية. فهذا الجيش يملك الشرعية الداخلية، وإن في حدودها الدنيا، ويُحظى بالاعتراف الخارجي من كل دول العالم تقريباً، وهذا ما يؤهله لإعادة السيطرة على البلاد أو على المناطق الاستراتيجية على الأقل.
في مقابل ذلك نجد أن قوات الدعم السريع، (الجنجويد) غير مؤهلة للقيام بذلك الدور بسبب طبيعتها المليشياوية. فلقد شكل نظام البشير هذه القوات كمليشيا من قبائل الرزيقات الرعوية العربية، بغرض مساعدته في إنهاء التمرد في أقاليم دارفور، بداية الألفية. وخلال تلك الفترة ارتكبت المليشيا جرائم حرب نمطية، أحيلت بسببها الى محكمة الجنايات الدولية، حيث لازالت القضايا المرفوعة ضدها قيد النظر.
بحكم تأسيسها كمليشيا؛ لا تملك قوات الدعم السريع المؤهلات الفنية والموضوعية لتقوم بدور الجيش الرسمي، وابسط دليل على ذلك، ما حدث منذ بداية الحرب؛ حيث سيطرت تلك القوات، بشكل كلي أو جزئي، على المراكز السيادية في العاصمة، إلا أنها لم تستطع تحويل تلك السيطرة إلى انقلاب فعلي، بسبب افتقارها لأي مشروع سياسي يمنحها المبرر لتنصيب نفسها حكومةً وطنية. ولذلك اقتصر كل ما فعلته على تعطيل مؤسسات الدولة، وإنهاء الوجود الفعلي للحكومة السودانية، في العاصمة، وتبعا لذلك تعطلت الكثير من وظائف الدولة في مناطق كثيرة من السودان.
إلى جانب ذلك، برهن الجنجويد على أنهم قوى إجرام وتدمير، ففي المناطق التي سيطروا عليها، مارسوا القتل والاغتصاب والنهب وتدمير الممتلكات، بشكل ممنهج، ولم يتصرفوا كقوة مسؤولة وشبيهة بالقوات الرسمية، ولو حتى في الحدود الدنيا.
صحيح أن عودة نظام البشير الفاشل، بأي صيغة من الصيغ، لحكم السودان، هو أمر سيئ بكل المقاييس، خاصة بعد الثورة
التي أطاحت به في عام 2019، لكن الأسوأ من ذلك هو استمرار الوضع الحالي، (الحرب، وانهيار الدولة). هذا الوضع خلق أكبر كارثة إنسانية في العالم، وأدى، حسب بعض التقارير الدولية، إلى نزوح أكثر من 15 مليون سوداني داخل البلاد، ولجوء نحو 3 ملايين آخرين الى دول أخرى. بالإضافة إلى مقتل مئات الآلاف، والتسبب في إحداث تدمير هائل للبنية التحتية والممتلكات، وتعطيل شبه كامل للمقومات الأساسية للحياة الطبيعية. ونرى أن عودة الدولة تحت حكم الجيش الحزبي، بكل مساوئه، سيُخفف من حجم هذه الكوارث، وقد يفتح الباب أمام تحقيق سلام نسبي في المستقبل.
قد يقول قائل إن جعل خيار عودة الدولة السودانية مقتصراً فقط على سيطرة الجيش بشكله الحزبي القائم، أمر غير صحيح. وأن هناك خيارات أخرى من قبيل وقف الحرب عبر تسوية سياسية من خلال مفاوضات تشترك فيها كل الأطراف الفاعلة عسكرياً ومدنيا، برعاية أممية، أو إقليمية، وبما يقود الى إيجاد نظام سياسي جديد يكفل الحقوق المتساوية لجميع السودانيين، ويحقق الدولة الديمقراطية الموعودة.
لكن ومن خلال التجربة المعاشة في السودان، وفي دول أخرى منها اليمن وليبيا، حيث فرص التسوية أفضل مما هي عليه في السودان، فإن تلك الحلول ليست سوى أحلام وتمنيات. لأن وقف الحرب الحالية في السودان يبدو مستحيلا بالنظر إلى طبيعة ساحات المعارك المنتشرة في مناطق جغرافية متباعدة. وغياب الرغبة في وقف الحرب من قبل الجيش، فضلا عن غياب الطرف، أو الأطراف الخارجية القادرة، على فرض وقف لإطلاق النار، أو الهدنة، كخطوة تمهيدية ضرورية لعقد مفاوضات السلام.
إضافة إلى أن الحرب الدائرة حاليا لا تشبه في طبيعتها الحروب السابقة التي توقفت عبر تسويات سياسية؛ كما حدث في الجنوب ودارفور. لأن الاسباب الباعثة لاندلاع تلك الحروب
كانت ناتجة عن مشاريع سياسية لجزء من سكان تلك المناطق تطالب بالإصلاح وترى أنها تعرضت للظلم والتهميش. ووفقا لذلك، كانت التسويات السياسية مبررة، ومطلوبة من داخل السودان ومن العالم الخارجي. أما في الحرب الحالية فإن الجنجويد لا يمتلكون أي مشروع سياسي فئوي، أو وطني/قومي على الرغم من إدعائهم ذلك. كما أن المناطق التي يسيطرون عليها، وتحديدا العاصمة وما حولها، لا تمت لهم بصلة، فوجودهم فيها أشبه بوجود العصابات المحتلة، من وجهة نظر معظم سكان هذه المناطق، وهو أمر أكده الجنجويد بسلوكهم الهمجي.
إن مليشيات الجنجويد أشبه بالعصابات الإجرامية في طبيعتها وسلوكها أكثر من كونها جماعة ثوار أو مدعي مظلومية ما، كما كان الحال مع الجيش الشعبي في الجنوب وحركات التمرد في دارفور.
إلى جانب ذلك كانت تلك الحروب محصورة في مناطق محددة من الدولة، بينما كانت المناطق الأخرى تعيش أوضاعا طبيعية، وبالتالي لم تؤدي تلك الحروب إلى إنهيار الدولة. لذلك لم يكن الأمر يستدعي حسمها بالطرق العسكرية كما هو حال الحرب الحالية.
إن توقف الحرب، أو تجميدها على خطوط التماس الحالية، لن يخدم السودان لأنه يعني استمرار حالة اللادولة. كما أنه سيكون توقفاً مؤقتا، يمنح الأطراف المتحاربة، والدول المتدخلة، فرصة لترتيب أوضاعها لجولات جديدة من الحرب، قد تكون أكثر تدميراً من الحرب الحالية، وقد تكون أكثر اتساعاً من خلال مشاركة قوى داخلية وخارجية جديدة في الصراع. وكل ذلك يؤدي إلى ضياع الفرصة الوحيدة المتاحة حالياً لاستعادة الدولة.
أكدت التجربة التاريخية أن معظم الدول التي تعرضت للتفكيك
لم تنتهي حالة تفككها إلا بانتصار قوة واحدة وسيطرتها على كل أو معظم مناطق الدولة. وهذا الخيار، رغم تكلفته الإنسانية الباهظة يبقى الخيار الأقل سوءا.
ولذلك فإن إعادة الدولة والسيطرة عليها، من قبل القوة التي تملك المقومات الفنية والموضوعية لتحقيق ذلك، ومهما كانت تلك القوة سيئة، فإنه خيار أفضل من غياب الدولة وتفككها.
إن حياد، القوى الثالثة، إن صح التعبير، مثل القوى الحزبية وما تبقى من قوى المجتمع المدني، أو وقوف بعضها مع مليشيا الجنجويد، سيؤدي عملياً إلى إطالة أمد الحرب وبالتالي استمرار الكارثة التي يعيشها السودان. وبمعنى آخر فإن تعامل تلك القوى مع الجيش ومليشيا الجنجويد على قدم المساواة، يؤخر عملية استعادة الدولة. ويدفع الجيش للمزيد من الانغلاق الحزبي والتطرف الإيديولوجي، وهو ما يحدث حالياً.
في المقابل فان تأييد القوى الثالثة للطرف المؤهل موضوعياً وفنيا لاستعادة الدولة يهيئ الظروف لانفتاح الجيش على تلك القوى، ويخفف من اعتماده على القوى المتطرفة. كما أن هذا التأييد يمنح قوات الجيش شرعية أكبر، مما يدعم قدرتها على هزيمة الجنجويد، في وقت أسرع وبتكلفة مادية وبشرية أقل.
صحيح أن جزء من وحدات الجيش، وخاصة، بعض الأجنحة العقائدية المتطرفة، قد مارست جرائم مشابهة لما قامت به مليشيات الجنجويد، إلا أن التقارير الواردة من السودان تؤكد أن جرائم المليشيا كانت أكبر عدداً وأكثر منهجية.
وفي كل الأحوال، حتى لو تساوت انتهاكات الجيش السوداني مع جرائم الجنجويد، فإن هزيمة الجنجويد ستؤدي إلى عودة الدولة السودانية، وهذا هدف نبيل وسامي، أما انتصار الجنجويد، أو عدم هزيمتهم، فلن يقود إلا إلى مزيد من الفوضى والدمار.
أن على السودانيين تحديد الأولويات وفق المعطيات الحالية. وعودة الدولة من خلال سيطرة قوة واحدة على كل أراض
السودان، أو المناطق الإستراتيجية فيه، ينبغي أن تكون مقدمة على أي طموحات أخرى، لأن الحق في وجود الدولة هو أصل كل الحقوق وفصلها.
تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
Prev Post
تعليقات