في تاريخ الجامعات والأكاديميا اليمنية، هناك شخصيات لا يمكن أن تُمحى من ذاكرة الطلاب والمجتمع الثقافي. الدكتور عبد الكريم قاسم سعيد الخطيب هو أحد هذه الشخصيات الاستثنائية التي تركت بصمة واضحة في ميدان الفلسفة والتصوف، وحققت تأثيراً كبيراً في الأوساط الأكاديمية والفكرية. فمنذ أن كان أستاذاً للفلسفة في جامعة صنعاء، أضفى على محاضراته طابعاً خاصاً من العمق العقلي والحكمة التي نابعة من تجربته الحياتية الغنية في مجال المعرفة والبحث.
وُلد الدكتور عبد الكريم في زمن كان الفكر الفلسفي والفكر السياسي يتداخلان بشكل كبير ، ولذلك لم يكن غريباً أن ينجذب إلى دراسة الفلسفة في دمشق و التي فتحت أمامه آفاقاً واسعة لفهم الحياة ومفارقاتها.
في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، بدأ العديد من طلابه في جامعة صنعاء يُشيدون بأسلوبه الفريد في تدريس الفلسفة، الذي كان يعكس قدرته الاستثنائية على مزج الجوانب النظرية مع التطبيقات العملية في الحياة اليومية. ولا يزال العديد من طلابه يذكرون كيف كان يطرح أفكاراً فلسفية معقدة بطريقة مبسطة تجعلها قريبة إلى الفهم، حتى لأولئك الذين لم يكونوا على دراية واسعة بالفلسفة.
لكن إلى جانب كونه أكاديمياً بارزاً، فإن الدكتور عبد الكريم من الأشخاص الذين يتسمون بحس فكاهي عال.
كانت لقاءاتنا لا تخلو من النكتة التي تساهم في تخفيف حدة النقاشات والجدل والحشوش الطري.
والواقع أن الدكتور عبد الكريم قاسم من قلة دكاتره احبهم الطلاب وأفراد المجتمع الثقافي اليمني على حد سواء.
ذلك أنه كان يتقن فن النقاش والحوار، كما كان يطرح الأفكار بمرونة، ويراعي في حديثه احترام آراء الآخرين، مما أكسبه احترام الجميع من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية.
على أن الدكتور عبد الكريم لم يقتصر اهتمامه على الفلسفة العامة وحسب، بل اتخذ من دراسة الجملة الدينية في الخطاب السياسي محوراً رئيسياً في تفكيره.
وفي هذا المجال، كان له العديد من الدراسات النقدية التي تناولت كيفية تأثير الدين في السياسة وكيفية استخدام الخطاب الديني في حشد الجماهير.
ففي تلك الدراسات، لم يكن الدكتور عبد الكريم مجرد ناقد للأفكار السياسية، بل كان يُظهر قدرته الفائقة على التوازن بين التحليل الفكري والنقد الجاد للظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشها المجتمع اليمني خلال مراحله المختلفة.
ولكن إحدى أبرز إسهاماته الفكرية هي دراسته المتعمقة في “رسائل إخوان الصفا”، وهو مشروع فكري مهم يتعامل مع إحدى المدارس الفلسفية التاريخية التي جمع فيها العديد من العلوم المختلفة، بدءاً من الفلسفة ووصولاً إلى التصوف.
فمن خلال كتابه “إخوان الصفا وفلسفتهم في الألوهية والوجود”، استطاع الدكتور عبد الكريم أن يقدم تحليلا معمقا لفلسفة إخوان الصفا، وعلاقتها بمفهوم الألوهية والوجود، وأثر هذه الفلسفة على الفكر الإسلامي والعالمي.
بل لقد كانت دراساته حول إخوان الصفا بمثابة المجال المختلف حيث أتاح للجيل الجديد من الباحثين والمتخصصين في الفلسفة فهم أعمق للجذور الفلسفية للتصوف والفكر الديني.
كما قدم من خلال دراساته قراءة جديدة لهذه المدرسة الفلسفية التي غالباً ما يتم تهميشها في الدراسات التقليدية.
وبالرغم من مكانته العلمية والفكرية الكبيرة، إلا أن الدكتور عبد الكريم من الأشخاص الذين يتسمون بالتواضع الشديد، الأمر الذي جعله محبوباً لدى الجميع.
كان يُعِدّ العلم وسيلة للتواصل مع الآخرين وليس أداة للتفاخر. فقد أسهم علمه ومعرفته ليس فقط في نشر الوعي الفلسفي والفكري، بل أيضاً في تعزيز القيم الإنسانية مثل الصدق والاحترام المتبادل. ولم يكن هناك شك في أن الدكتور عبد الكريم من الأساتذة الذين لا يفرضون احترامهم بالقوة، بل بالتواضع الذي رافقهم طوال مسيرتهم.
من بين أكثر اللحظات التي لا يُمكن نسيانها هي تلك اللحظات التي جمعتني به مع عدد من طلابه وأصدقائه في مدينة القاهرة، حيث كان يتلقى العلاج.
هناك، في شوارع القاهرة، لم يكن الناس يعرفون عن الدكتور عبد الكريم إلا أنه الرجل صاحب الضحكة الجميلة والعقل اللامع.
على أنني اتذكره وهو يمر في إحدى الشوارع بحي الدقي ثم بصوته المميز يناديني يافتحي لالتفت ونتعانق حد الدمع.
طبعا من المؤسف أن الدكتور عبد الكريم قد عانى في السنوات الأخيرة من تدهور حالته الصحية، وهو أمر أثر في محبيه وزملائه الأكاديميين بشكل عميق.
ومع ذلك، فإن تأثيره على المجتمع الأكاديمي والثقافي لا يزال مستمرا، وذلك بفضل أعماله ومؤلفاته التي تُعد منارات فكرية لا يُمكن تجاوزها.
وأنا اعلم أن مثل هذا الرجل العظيم، الذي نذر نفسه للعلم والفكر، لن تقتصر بصمته على الجوانب الأكاديمية فحسب، بل ستظل أفكاره حية في قلوب أولئك الذين تعلموا منه.
والحال إن الدكتور عبد الكريم قاسم سعيد الخطيب يبقى أحد الأعلام الذين استطاعوا أن يحققوا توازنا نادرا بين الفكر والفلسفة والتواضع الإنساني.
وبالنسبة لكل من عرفه، سيظل ذكره مرتبطا بعقله اللامع وحكمته العميقة، ولن تتوقف الدعوات له بالعافية والسعادة من أصدقائه وطلابه ومحبيه الذين يتذكروه بقلوب ملؤها الاحترام والتقدير.
يقول استاذ الأجيال عبد الباري طاهر عنه “بان دراسته في الحديدة مطلع السبعينات كان كثير التردد مع أخيه عبد السلام قاسم الخطيب على مقر مجلة «الكلمة» لزيارة قريبهم محمد عبد الجبار – رئيس التحرير، وكانت ملامح الذكاء لا تخفى. انتسابه لليسار الماركسي قد أكسبه أداة تحليل متينة وعميقة، ولكن انفتاحه على مدارس وتيارات الفكر الإنساني أكسبه مقدرة فائقة على تقديم زاد معرفي وعلمي متفتح وعقلاني متجدد.
المجتهد المحتفي بالحريات والحقوق، واللصيق بالمجتمع المدني، وبالنشاط الإنساني ، وبالتيارات المدنية والسياسية جعل منه واحداً من أهم المدافعين عن الحريات والحقوق. انتمى باكراً لدعوة الاشتراكية واليسار الماركسي، وهو باحث مهم بمركز الدراسات والبحوث اليمني، ومن أساتذة جامعة صنعاء المرموقين، وفي قيادة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لأكثر من دورة..”
في الحقيقة عرفت الدكتور عبد الكريم قاسم الخطيب كشخصية مسيسة حاذقة وداهية، اذ استطاع مثلا أن يحصد أكبر عدد من الأصوات في انتخابات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الأخيرة رغم عدم دعم أي حزب له!. هذه القوة السياسية والفكرية تؤكد عزيمته وجرأته. نُدعو له أن ينهض ويقاوم التحديات التي يواجهها من أجلنا، ففكره وعطاءه لا يزالان بحاجة إلى نور يعم به أرجاء اليمن..