كان الظرف اليمني في مطلع العام 1980م معقداً إلى حد كبير وكان هناك اختلافات ومعارك شمالاً وجنوباً من ارض الوطن ناهيك عن وجود الجبهة الوطنية في الشمال والتي جعلت الوضع في حالة زعزعة نظام الحكم. إلى جانب اضطربات القوى السياسية والاجتماعية الاخرى، بالاضافة إلى التوترات في العلاقات الخارجية مع دول الجوار وكثير من المشاكل الاقتصادية. الأمر الذي شكل أمام الرئيس اليمني علي عبدالله صالح جملة من الهموم كان في مقدمتها
خطورة ترك الساحة خالية من فكر وطني.. ومن فراغ سياسي، نظراً لأن ذلك الفراغ كان يشكل ثغرة لا يؤتمن معها من تسرب أفكار الآخرين برمتها على ما في ذلك من مخاطر.و كان يحز في نفس الزعيم المؤسس علي عبدالله صالح رؤية مجاميع من أبناء اليمن تمزقهم الخلافات الطاحنة جراء الانحياز لهذا الفكر الدخيل أو ذاك، أو التأثر بالتبعية لجهات دولية، والتخلي عن ولائهم الوطني لليمن أرضاً وشعباً. حيال ذلك مما عنت له فكرة الدعوة إلى وضع ميثاق وطني يستمد روافده ومضامينه من تاريخ وتراث شعبنا وواقعه ومصالحه وطموحاته، ومن انتمائه الديني والوطني، والقومي وعقيدته الراسخة ليصبح دليلاً نظرياً يجمع بين الأصالة والمعاصرة في توازن دقيق لا يخل بضرورة التمسك بهويتنا اليمنية والعربية والإسلامية.. ولا يلغي حقنا في الأخذ بالمشروع من أسباب الحضارة والمدنية، بما يكفل لليمنين تحقيق التقدم والرقي والتطور وصولاً إلى حياة أفضل، ومستقبل زاهر للشعب، وكان لا بد لمثل هذا الميثاق من التأكيد والتوكيد على مبادئ وأهداف ثورتنا.. والاستهداء بحصيلة تجاربنا الوطنية بالإضافة إلى الاستفادة من تجارب الآخرين فيأتي متكاملاً، ويكون شاملاً قدر الإمكان.. ومع ذلك لم يقتصر تصوره للميثاق المنشود على أن يكون دليلاً فكرياً فحسب وإنما ليكون كذلك بمثابة عقد اجتماعي بين مختلف الفئات الاجتماعية وقوى وشرائح شعبنا لتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي تعزيزاً للوحدة الوطنية حتى تتضافر الطاقات والجهود من أجل بناء اليمن الجديد يمن الوحدة والمستقبل الزاهر..
وفي سبيل الوصول إلى صياغات جديدة وعملية تؤسس هياكل المرحلة القادمة وتكون نواة حقيقة لبرامج العمل الوطني لجميع القوى السياسية والاجتماعية في الساحة اليمنية، إذ اخذت مسيرة بناء الدولة اليمنية تسلك طريق تكاملي متقدم منذو تاريخ 27 مايو 1980م حين اصدر فيها الرئيس علي عبدالله صالح قرار جمهوري رقم (5) لسنة 1980م، والذي تعتزم القيادة اليمنية من خلال صياغة ” الميثاق الوطني” ، ليوحد القوى اليمنية المختلفة على منهج فكري واضح وثوابت استراتيجية ملزمة.
وتكمن عظمة (الميثاق الوطني) في أنه لم يكن حصيلة جهد فردي أو نخبة اجتماعية، وإنما كان نتاج جهود جماعية مضنية اشتركت فيها مختلف القوى والفئات الاجتماعية والشخصيات الوطنية من مثقفين وعلماء واكاديميين وسياسيين وقبائل عبر ممثلين عنها أنفقوا في إعداد مشروعه أمداً ليس بالقصير..
حيث شكلت اللجنة اربع لجان فرعيه لكل لجنة اختصاصاتها ، وعقدت لجنة الحوار الوطني اجتماعها الأول بتاريخ 12/6/1980م. في ( نادي الضباط) بالعاصمة صنعاء، وترأس أعمال الاجتماع رئيس الجمهورية علي عبد الله صالح، وكان على اللجنة أن تضع وتقر اللائحة الداخلية لها، وتحدد لجانها الفرعية، ثم تقوم بحملاتها الإعلامية في مختلف أرجاء اليمن، إضافة إلى توزيع استمارات الاستبيان ونسخ من مشروع ( الميثاق الوطني) على المواطنين.
وبتاريخ 14/12/1980م عقدت جميع اللجان الفرعية للجنة الحوار الوطني اجتماعا موسعا في ( نادي الضباط) برئاسة رئيس الجمهورية، ثم خلاله جدولة الأعمال وفقا لسقف زمني معلن، وتوعية اللجان الفرعية بمهامها، فكان أن باشرت تلك اللجان حملاتها الإعلامية بدء من يوم 16/12/1980م ولغاية 4/1/1981م وخلال تلك الفترة عقدت اللجان (250) مؤتمرا مصغرا، وزعت خلالها (100.000) مائة ألف نسخة من مشروع الميثاق الوطني، إضافة إلى (200.000) مائتين ألف استمارة استبيان الآراء. بلغت لجنة الحوار الوطني أهم وأدق أعمالها في يوم الأحد 15/2/1981م. وعقدت اجتماعها برئاسة رئيس الجمهورية، وباشرت اللجنة بأعمال الفرز والصياغة مستهدية بآراء الأغلبية وتصوراتهم ومقترحاتهم إلى أن تم الوصول إلى الصيغة النهائية لمشروع الميثاق الوطني، وفي يوم الأحد 4/10/1981م. استعرضت لجنة الحوار الوطني المشروع ، وتمت المصادقة عليه بالإجماع فردا فردا بطريقة رفع الأيادي.
ناهيك عن إسهام آخرين من ذوي الكفاءة والمقدرة في مراجعته ريثما تم التوصل إلى صيغة نهائية مقبولة من الجميع بعد سلسلة من الحوارات الوطنية الجادة بروح ديمقراطية.. وإثرئذ جرت عملية الاستبيان الشعبي عليه ليصبح بعد إقراره وثيقة إجماع وطني سجلت بذلك سبقاً في تاريخ العمل السياسي منذ فجر الحركة الوطنية في اليمن.. وعليه يمكن القول بأن (الميثاق الوطني) يشكل ضمانة للحيلولة دون الانحراف نحو هاوية الارتهان الفكري.. وصمام أمان ضد محاولات الاستلاب السياسي الخارجي. وتم اقراره في أول اجتماع للمؤتمر الشعبي العام يوم 24 أغسطس 1982م، فإن أصالة أسسه ومضامينه، وسلامة رؤاه وتصوراته للمستقبل لم تتأثر بتقادم العهد عليه بدليل تعاظم التفاف جميع أبناء شعبنا حوله واجتذابه – مع مرور الوقت- للمزيد من القوى السياسية اليمنية التي تعتبره قاسماً مشتركاً لها يعكس مفاهيمها، ويعبر عن أفكارها، ويترجم طموحاتها وآمالها.. ولئن كانت الفترة الفاصلة بين وضع (الميثاق الوطني) وحتى الآن قد حفلت بتطورات مهمة تمثلت في ما شهده الوطن من أحداث عظام، ومتغيرات جسام، وتحديات مصيرية، ومنجزات ومكاسب وطنية بالغة الأهمية، فإنها قد أثبتت بالمثل قدرة شعبنا على التغلب على الصعاب والصمود في وجه المحن والأخطار وقهر المؤامرات والتفاعل مع المتغيرات الوطنية والدولية وتطويعها لصالح أهدافه وخدمة مصالحه وطموحاته.. وما من شك في أن تسلحنا بالرؤى الواضحة التي يتضمنها ميثاقنا الوطني قد رفدنا بفيض من الثقة بالنفس والاعتماد على الذات والفهم الواعي لكيفية معالجة ما يعتور طريقنا من التحديات.. وما يواجهنا من أزمات، ذلك لأنه رسم لنا بوضوح معالم الطريق، وحدد لنا الخطى التي ينبغي علينا التزامها في سبيل أهدافنا العاجلة والآجلة. وإذا كان (الميثاق الوطني) قد ركز على الوحدة اليمنية بوصفها قضية محورية لكونها تمثل قدرنا ومصدر قوتنا كشعب واحد منذ الأزل، فمن هذا المنطلق حرص المؤتمر الشعبي العام الذي شكل منذ قيامه في 24 أغسطس 1982م إطاراً تنظيمياً للوحدة الوطنية على أن يكون له شرف الاضطلاع بدور أساسي وفعال في الدفع قدماً، وبخطى حثيثة، نحو إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ووضعها في صدارة اهتماماته الوطنية، باذلاً في سبيلها جهوداً كبيرة وصادقة حتى تأسست الجمهورية اليمنية التي مثل الإعلان عن ميلادها يوم 22 مايو 1990م أروع تعبير عن إرادة شعبنا جيلاً إثر جيل، وأعظم إنجاز لأهم هدف من أهداف الثورة اليمنية، وتجسيداً لمطمح من أعظم مطامحنا الوطنية النبيلة التي تضمنها الميثاق الوطني، ومكسباً قومياً للأمة العربية جمعاء، ذلك لأن إعادة الوحدة اليمنية بقدر ما تشكل ضمانة لأمن واستقرار اليمن والمنطقة، كلها، فإنها تشكل كذلك رافد قوة ودعماً للأمة العربية قاطبة.