لستُ أدري كيف أحس كلما استعصت علي الكتابة، صورة كاتب يحار أمام بياض الصفحة بلقطة رجل يسير وسط صحراء من ثلج يمتد إلى مالا نهاية دون أن يعثر على بُغيته، نعيش حالة تشابة بين صباحاتنا ومساءاتنا، نعيش واقع مملوء بالسواد أكثر من سواد المداد، حد القرف والغثيان، إنه زمن الالتباس بامتياز، حيث يغيب المعنى فيما يظل الفراغ والتفاهة محافظين على سكونهما بشكل مطمئن.
بلاشك أن السياسة مثل الطبيعة، تخشى الفراغ وترفضه، وكل فراغ هو تعبير عن أزمة مفتوحة، ضعف مؤسسات، انهيار القيم، هيمنة الغرائز، النفور من السياسة التي ليس لها من هدف سوى ضمان حرية المسؤولين قبل المواطنين، شيء من هذا نحسه اليوم في واقعنا في اليمن، هناك ما يُشبه الدوخة الكبرى حين تصل أمة في مرحلة دقيقة من عمرها إلى خيارات متعددة وملتسبة بين القطائع مع مرحلة ماضية، والمداخل الأساسية للانتقال إلى مرحلة جديدة، تمكننا من ولوج المستقبل بقدرة كبرى على مواجهة التحديات الجديدة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن عدم تجاوز الماضي من يجعلنا اليوم نعيش في مؤخرة المنطقة.
ثمة حدثين أساسيان في اليمن الأول تم استغلاله وتوظيفه توظيف يتعارض مع المصالح والأهداف الوطنية، والآخر كان نتيجة لهذا الاستغلال والتوظيف الغير سوي، لحظة انتقال السلطة سلمياً التي تحولت إلى أداة للتعبئة الخاطئة من قبل تنظيم الإخوان وحلفائه من الأحزاب الصغيرة، ثم فترة هبوب رياح ذيول الملكية، الذي أداره طرفان بحكمه، تنظيم الإخوان وجهات خارجية، وكذلك غياب دور الدولة آنذاك وعدم لجوئها إلى الحل الاستئصالي والاستجابة لمطالب الشارع اليمني، وما حدث من حراك بين وبعد هذين الحدثين كان محدوداً في الجغرافيا أو في رقعة المطالب المحلية أو في ردود الفعل من أجل الإنصاف وكذلك عدم الاستجابة لمعالجة الأخطاء التي أدت إلى سيطرة ميليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء ونشوب الحرب لاحقاً التي توسعت رقعتها لتشمل كل محافظات الجمهورية اليمنية.
اليوم يبدو القطار اليمني كما لو أنه يدخل النفق من جديد، والضوء القادم من الجهة الأخرى لهذا النفق يبدو بعيداً، ضباب كثيف يحجب الرؤيا للمستقبل، والسؤال دائماً ماهو شكل اليمن الذي نريد؟ وما السبيل للوصول إليه؟
بلاشك كان اليمن في عهد الرئيس الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح في قلب التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ لايمكن إنكار التحولات التي حدثت في قلب الدولة، فيما ثمة مشاريع كبرى كانت تنجز على الأرض، لولا حدوث الفوضى لكانت اليمن اليوم قبلة دول المنطقة والعالم، قد يختلف الكثير حول أولوياتها، لكنها كانت أقوى حقبة زمنية عاشها اليمنيون، طرق وجسور، واستثمارات ضخمة تضع ثقتها في الدولة، مدارس وجامعات، مستشفيات ومراكز طبية، كل ذلك وأكثر كان مفخرة لكل اليمنيين الذين وجدوا أنفسهم اليوم في قلب المطالب الأساسية، لقد أصبحوا أكثر إلحاح في مطالبهم من أجل الحرية والعدالة وتوفير لقمة العيش لذويهم، ولأننا في زمن إنهاك الأحزاب السياسية التي انتقلت إليها كل أمراض المجتمع، من انتهازية واستغلال للوضع العام في البلد، تحولت السياسه إلى مجال للاستعراض المسرحي، وسط شراهة النمط الاستهلاكي الذي حول الكماليات إلى ضروريات أساسية.
علمتنا سنوات الحرب الطويلة أن الدولة والنظام والقانون ملاذ الأوطان على مر التاريخ، وأن الغوغائين على خطأ وإن ادعوا أنهم يقفون في الجانب الصحيح من كل حدث، ولم يكن يوماً النظام في اليمن يدعو للتشاؤم ولا أعرف كيف تم تشويهه، ربما الحالمون الخطباء أو عصابات الأديان أو حراس الفضيلة من يدعون أنهم رسل الله في الأرض.
منذُ ولادة الفوضى في اليمن، أعيش كل يوم مع قصص الضحايا كما لو كنت مصلوباً على جدار مطالبهم وحقوقهم المنهوبة، أصادفها كل يوم دون خيار، لا شيء يشغلني سواهم، مطارد بهم كأن صالح الشهيد قد أختزل في حكايات الألم التي يحملونها، لا أريد معرفة التفاصيل ففي ملامحهم ما يكفي لشرح ذلك، شخص يسكن في جواري لديه من الحكايات ما تكفي لشرح كيف سُرق منا وطن.
أحدهم الآن ربما يعصر معاناتهِ ويبكي على ما ضاع منه، لم يحمل أي ذنب سوى أنه قال لا للفوضى نعم لبقاء الأمن والاستقرار، قُتل عشرات المرات ثم عاد على هيئة رفات، لا أتساءل كيف مرت عليه السنيين، فكرة أن تعود رفات بلا رأس يقودك إلى بين أهلك، وعقل فاقد للصواب والخطأ أمر يصعب تخيله، يمكنك الآن تخيل فكرة أن تعيش في وطن يحكمه من كان سبب في معاناتك وفقدانك للشغف الذي غادرك فور مغادرة رأس البلاد من السلطة.
في اليمن وحدهُ يسير الكذب والحقيقة على شكل متوازي، لكن الكذب يتقاطع بقوة مع الحقيقة، ففرص إثبات وجوده أقوى من فرص ظهور الحقيقة التي لا أتباع لها ولا حشود، وما يقدمه لنا الساسة الجدد اليوم يتجاوز خيط الكذب الذي يلتف حول عنق الحقيقة، فإما يخنقها أو يجعلها في حكم الميت.