مع بزوغ فجر عامنا الجديد وإشراقة أول أيَّامه، تزدادُ تطلُّعَاتنا المليئة بالتفاؤل لأن يكون عامَ خيرٍ تنقضي معه مآسي اليمن الحبيب وتندملُ جراحاتِ شعبنا الأليمة، وتنتهي مجريات الصِّراعِ الآني بين جمهورية الشَّعب وإمامية الجماعة، وتُطوَى صفحاتُ واقعنا المرير، التي ليس يطويها إلا إرداةٌ فولاذيةٌ مشتركة من الشعبٍ ووُلاة أَمرِه، مترجمةٌ في الميدان بأفعالٍ حاسمة تُنهي هذه الحقبة مِنَ الصِّراع الذي طالَ أمدُه واتَّسَعت آثارُه، كما حُسِمَ – بشجاعةٍ واقتدار- ذاتَ يومٍ في سِتِّينِيّاتِ القَرنِ الماضي.
سِتّةُ عُقودٍ خَلَت على مقارَعةِ الإمامة في اليمن وإِهَالة التراب على حُكمها والصَّلاة عليها، وما تم دفنهُ لا يعود للحياة إلا عقبَ نفخة الصُّور الكبرى إيذانًا بأُزوفِ القيامة. فإنْ عادَت الإمامةُ للبعثِ في حياة اليمنيين من جديد فتلك إمَّـا: معجزةٌ إلهية – ولا معجزةَ بعد انقضاء الرُّسُل- أو أضغاثُ أحلامٍ لا حقيقةَ لها في يقظةِ الواقع، فما إنْ يستيقظ الحالمُ من نَومهِ حتى يفوقَ من زيف تخيُّلاتِه تلك.
سِتّةُ عُقودٍ خلَتْ على إعلان ميلاد اليمن الجديد بحلَّتهِ الجمهورية، حُلَّةٌ فُصِّلتْ مقاسَاتُها بإرداة اليمنيين ورغبةٍ خالصةٍ منهم في الـ ٢٦ من سبتمبر المجيد ١٩٦٢ ، وقد دُفِع ثمنٌ باهظٌ من دماءِ أحرارها في سبيلِ الاكتِسَاء بها، والشُّعوبُ التي تدفعُ دماءَها في سبيل تحقيقِ ما تصبُو إليه لا تساومُ في ذلك المُتحصَّل أو تفرِّطُ فيه، فهو بمثابة نصرٍ عزيزٍ لهدفٍ نبيلٍ بُذِلَ الغالي ورَخُصَ النفيس في سبيلِ الوصول إليه، ولو كان ذلك السَّبيلُ معبّدًا بالأشواك ومرصّعًا بالعوائقِ الشِّدَادِ فستتحمَّلهُ برحَابةِ صدرٍ وشُموخِ عِزّة، كونه العنوانَ المضيئَ الذي تدرك أنهُ سيُسطَّرُ بأَحرفَ من نور في قاموس تاريخها السياسي، والغايةَ النبيلةَ التي تستحقُّ العناءَ في معترك شأنها الحياتي، بل أسمى غايةٍ قد تعلو ما عداها، ومعلومٌ أنَّ الغاياتِ السَّامياتِ لا تقبلُ التنازلاتِ أو المقايضَات، فضلاً عن الانتقاصِ منها، فكيف بمحاولةِ وَأْدِها.
في شِرعةِ وسُنَنِ الدُّولِ المنهكة سياسيًا واقتصاديًا، قد تعتري الشُّعوبَ حالاتُ ضَعفٍ وانكسَارٍ في بعض أزمِنتها الحياتية، ولا جرَمَ في ذلك، إنما الجُرْمُ أن يتحذلقَ بعضُ المتوهمين مستغلين تلك الحالة الانكسارية (المؤقتة) لفرض أجندتهم المنطوية على ما يخالف ثَوابتِ شعوبهم، ظناً واعتقادًا أنَّ الفرصةَ مواتيةٌ لهيمنة تلك الأجندة وتربعها، والمتمثلة صراحةً – في إطار حالتنا اليمنية الراهنة – بإعادة نسخة الإمامة بلباسها الحدَاثي، لتحلَّ بديلاً عن تلك الثوابتِ العريقة التي يعتلي قمتَها نظامُ الحكم الجمهوري. وذاك ضربٌ من التوهُّم يلفِظهُ منطقُ الواقع وتتأبَّى قبولَه طبيعةُ الشعب اليمني المتشرِّبة بالجمهورية.
وزِد فوق ذاك التوهُّمِ – المنبوذ – توهمًا آخر، قائمًا على فرض تلك الأجندة تحت وطأة القوة ( ولو بقوة ساخرة أطلق عليها، مجازًا : الصميل الجمهوري ). وذلك ما تجلَّى عياناً في وقتٍ ما، إذْ شاءتِ الأقدارُ -ويَا للسُّخرية- أن يتم منع الاحتفالات السبتمبرية الخاصة بذكرى قيام الجمهورية اليمنية باستخدام أَصمِلةٍ (عِصِيٍّ) مطليةٍ بألوان علم الجمهورية، تارةً، وباعتقال المحتفلين وزجِّهم في غياهبِ السُّجون تارةً أخرى، وإذا كانت التوهُّمات في قواميسِ اللغة تأخذ معنىً معاكسًا للحقائق، فإنها في قواميسِ الشعوبِ ونضالاتها تأخذ معنىً أعمق يتبلور في (الاستحالة) استحالة تحقق تلك التوهمات. وهل من قوةٍ مهما بلغَت تملكُ غِلابَ شعبها ومقارعتَهُ والانتصارَ عليه؟
إنَّ أحدَ المسَلَّماتِ المتفقِ عليها في سِمات الشعب اليمني، هي عناديته، فهو شعبٌ عنيدٌ صبورٌ وجسورٌ لا يرضخ بسهولة، ولا يقبلُ الإملاءاتِ خصوصًا تلك التي مبعثُها التهديدُ ومنبعُها الوعيد، كما أنه لا ولن يسمحَ بفرض أيديولوجياتٍ عليه عفَا عليها الزمن وباتت محلَّ استهجانٍ في عصرنا الحالي، وإنْ سَكتَ (الشَّعبُ) على فارضيها برهةً من الزمن فتلك حالةُ ضرورةٍ فُرِضت عليه، وعِلّتُها مراعاةُ ظروفِ الواقعِ المأساوية المحيطِةِ بهِ من كلِّ جانب، إضافةً للسَّطوةِ الأمنية التي ينتهجها الحكَّام الجُدُد( حكَّام الأمر الواقع)، الأمر الذي جعله يتماهى – مؤقتًا- ومزعوم تلك الأجندة، لا ارتضاءً شخصيٍّا بأربابها أو اقتناعًا موضوعيًّا بمضامينها.
ولا شكّ في حقيقة تلك القناعة اللّافِظَة لأجندةِ الإمامة، كيف لا، وشعبنا اليمني قد رضعَ حليب الجمهورية وتنسَّم هواءها وترعرع في ظلها وشبّ في كنفها، وارتضتها قناعة الآباء قبل الأبناء، كيف لا والجمهورية في مضمون فلسفتها تتضمن نبذًا للفوارقِ الطبقية ونسْفًا للتمايزات الإنسانية المقيتة القائمة على أساس التمييز السُّلالي المركَّب، ومظهر ذلك التركيب اندماج الانتماء لجغرافية معينة برابطة السُّلالة، ليضحيَ صاحب ذلك التميز ليس أوفر حظًا من غيره بل الأحقَّ الأوحد بكل الاِمتيازات، وتلك هي الصورة المحدَّثة لنظام الإمامة في اليمن بنسختها العصرية، التي تتقدم بنا صعودًا للهاوية، وتهرولُ خطواتها للوراء لننغمسَ في وضعٍ أشدَّ إظلامًا وقتامةً مما نقبع فيه اليوم.
كيف لا والجمهورية نظامٌ يتساوى في ظله وتحت سقفه كل أبناء الشعب (حقوقًا والتزاماتٍ)، ويتجلى ذلك في أمور كثيرة علَّ أجلها يبرز في إتاحة الحق لاعتلاء هرم السلطة أو المساهمة في قيادة البلاد بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة، والمشاركة في بنائها والنهوض بها، لا تسخيرَ كل تلك الجهود لتأليهِ شخصٍ أو تقديس أسرةٍ أو تمجيدِ طائفة. كيف لا وأساس الجمهورية هو إرساء مداميك العدالة بشموليتها وخصوصيتها المتمثلة في تقاسم السلطة وتوزيع الثروة، لا حكرها على فئةٍ مخصوصةٍ ذاتِ لونٍ واحد من أطياف المجتمع، ترتع في أفيائها وتحرم منها ما سواها.
لا منطقٌ عاقلٌ يجعل المرءَ يستسيغ فكرة الخروج من بستان الجمهورية وما تتيحه من اختيار حكامها أو تغييرهم بإرادة منه، ليزُجَّ بنفسه في سجن الإمامة وما تتضمنه فلسفتها من جبرِ واجبار تبتدي بفرضية أئمتها عليه ولا تقف -بالطبع- عند قبوله بممارسة نقيصة الاستعباد. ولعلَّ ما يعضدُ ذلك المنطقَ ويرجَّح كفته هو ما جلبته لنا بوادرُ الإمامة اليوم من حروبٍ شتى داخلية ودولية لا ناقةَ للشعب فيها ولا جمل، اسْتلبَت عقدًا مِن عُمر الدولة والمجتمع في تدميرِ ما تم تعميرهُ على مدى عقودٍ ماضية.
ختامًا لا ننكر أنَّ هناك بعضًا من أخطاءٍ عشناها في كنفِ الحكم الجمهوري انعكسَت آثارُها على معايشِ الناس ومستوى حياتهم الخدمية وانحرفَ معها ميزانُ العدالة حينًا من الدَّهر لصالح فئةٍ من خواصِّ الشعب أَثرَتْ ولعبتْ بمقدراتِ البلاد واستأثرت بخيراتها دون العامة، لكنها تظل أخطاءً شخصيةً منوطةً بطبقةٍ ارستقراطية في المجتمع، لا مثلبةً أو نقيصةً بالجمهورية ذاتها كمنهجٍ وأسلوبٍ وقيمة، تستهدفُ في حقيقةِ مكنُونها رفاهيةَ عموم الشَّعب وتبتغي الصَّالحَ العام في كل مجالات ومقوِّماتِ الحياة.
إنَّ الجمهوريةَ – رغم تلك الأخطاء المحدودة – تظلُّ الخيارَ الأنسَب للشُّعوبِ الحرَّة والواعية، الشعوب الحيَّة التي تُعلي من قِيَم الكرامةِ الإنسانية والمبادِئ المرتبطة بها، وخصوصاً في يمننا الحبيب فهي ثمرةُ الشجرة النضالية لغَرسِ الثورتين السبتمبرية والأكتوبرية، ومكسبٌ على غيرهِ مُستعلٍ، وعن الاستئصالِ مُستعصٍ، فجذورُ أصلها راسخةٌ ثابتةٌ في قاعِ الأرض لن تضرَّها فؤوسُ الحاقدين، وفروعُها ممتدةٌ في عَنانِ السَّماء لن تطالها رؤوسُ المتنطِّعين.
ولـذا وأمام وَهجِ الجمهورية السَّاطع وارتضاءِ الشعب اليمني بها كنظامِ حكمٍ يرتكز على مبدأي المساواة والعدالة، فإنَّ العلمَ الجمهوري سيرفرفُ في ظلها – مجددًا – في سماء الوطن : شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، من أقصاهُ إلى أقصاه ومن أعلاه إلى أدناه، وسيحوطُ بجناحاتهِ الحانية كل فئاتِ المجتمع. وستخبو وتأفلُ – لا محالة – محاولاتُ فرضِ إماميّةِ الأحفادِ كما خبَتْ وأفَلَتْ مِن قبلُ إماميّةُ الأجداد، وسَيبوءُ معترك صراعها الضَّاري المشتعِل في كل الجبهات بالخسران؛ لأنّ المشاريعَ المتصادِمةَ مع إراداتِ شُعوبها وتطلعاتِهم، مصيرُها المؤكدُ والمحسُوم – قولاً واحدًا – هو سُرعةُ التلاشي وحتميَّةُ الأفُول.