منبر حر لكل اليمنيين

شذرات استراتيجية .. العروبة والغرب والترك والفرس .. صراع الهوية والأعداء اللامتناهيين

مصطفى بن خالد

44
اليمن هي العمق الإنساني والحضاري والقيمي للعروبة والأمة، و لا يمكن الحديث عن الهوية العروبية بمعزل عن اليمن، ذلك البلد الذي يُعدّ العمق الإنساني والتاريخي والحضاري الأهم للأمة العربية، إذ شكّل اليمن منذ أقدم العصور مهد الحضارة العربية الأولى، حيث أزدهرت فيه ممالك عظيمة مثل عاد، وثمود، وسبأ، ومعين، وقتبان، وحِمْيَر.

كذلك مملكة كندة، الغساسنة، المناذرة، وغيرها الكثير، وهذه الممالك لم تكن فقط شاهدة على أزدهار حضاري وثقافي عريق، بل كانت البداية والأساس الذي قامت عليه قيم المجتمع والدولة والهوية العربية الجامعة، وهو ما يجعل محاولات طمس حضارة اليمن جزءاً من استراتيجية تستهدف ضرب الجذور العميقة للهوية العروبية.

ولقد شهدت الهوية العربية عبر تاريخها الطويل تحديات مستمرة من قوى داخلية وخارجية سعت لطمس معالمها وكسر عمقها الحضاري والعرقي الجامع. هذه التحديات لم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتاج صراعات حضارية وأيدولوجية ممتدة عبر القرون، لعب فيها الغرب، والترك، والفرس، بالإضافة إلى قوى أخرى، أدواراً مختلفة ومتشابكة بهدف الانتقال بالمجتمعات العربية من الهوية العروبية الموحدة إلى هوية إسلامية متعددة الأعراق واللغات والمذاهب، تتسم بالتشتيت بدلاً من الوحدة.

العروبة: هوية جامعة ودورها الحضاري

تعد العروبة أحد أبرز المعالم التي شكلت هوية سكان المنطقة العربية، وهي ليست مجرد انتماء عرقي أو لغوي، بل منظومة ثقافية وحضارية متكاملة تجذرت منذ فجر التاريخ. لعبت الحضارة العربية دوراً ريادياً في توحيد الشعوب الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الجزيرة اليعربية عبر :
1- اللغة العربية، التي كانت أداة للتواصل الثقافي والسياسي.
2- الدين الإسلامي، الذي انتشر عبر القاعدة العروبية الحاضنة له.
3- الإسهامات الحضارية، من علوم وحساب وفنون وفلسفة، التي نهضت وتقدمت بها الشعوب اليعربية.

هذا الدور الحضاري والانساني والقيادي جعل من العروبة هوية تُجمع عليها الشعوب اليعربية ذات الثقافة والتراث واللغة الواحدة والعرق الواحد، وتواجه بذلك تهديدات متلاحقة من قوى عديدة سعت لطمسها.

الغرب: استراتيجية التفتيت والصراع الحضاري مع بداية الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر، عملت القوى الاستعمارية على تفكيك الوحدة العربية عبر استراتيجيات
متعددة:
1- التقسيم الجغرافي:
اتفاقية سايكس بيكو (1916) قسمت الوطن العربي إلى دول ذات حدود مصطنعة .

2- زرع الكيانات الدخيلة :
مثل إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين قلب العالم العربي وطرد وقتل وتشريد شعب بأكمله وتزويده باحدث التقنيات التكنولوجية والحربية

3- تشجيع القوميات المحلية :
لإضعاف الهوية اليعربية، مثل تعزيز الهويات المناطقية والإثنية والطائفية .
4. الدعم الثقافي المضاد :
محاولات فرض الثقافة الغربية من خلال التعليم والإعلام والعولمة .

الهدف الرئيسي كان تحييد القوة العربية المتمسكه بهويتها الجامعة ومنعها من استعادة دورها الحضاري والانساني الرائد والمستقل.

الترك: العثمانية والسيطرة على العروبة

خلال الحقبة العثمانية، سعت الإمبراطورية التركية إلى تذويب الهوية العربية ضمن الهوية العثمانية عبر:
1- التتريك الثقافي :
فرض اللغة التركية على المؤسسات الرسمية والتعليمية.
2- القمع السياسي :
من خلال تصفية الحركات القومية العربية وإعدام رموز النهضة، مثل ما حصل مع شهداء السادس من مايو 1916.
3- السيطرة الاقتصادية :
احتكار الموارد العربية لصالح إسطنبول.
إلا ان العرب الأحرار لم يستسلموا وقاوموا هذه المحاولات بشتى الوسائل، وشهدت المنطقة حركات تحررية متواصلة قادت إلى نهاية السيطرة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

الفرس: الأيديولوجيا الفارسية والإسلام السياسي

منذ العصور القديمة، كانت العلاقة بين العرب والفرس مليئة بالتوتر والصراع، خصوصاً مع تحول الدولة الفارسية إلى قوة إقليمية منافسة. ومع ظهور الدولة الصفوية في القرن السادس عشر، برزت محاولات جديدة لاستغلال الإسلام كأداة سياسية لفرض الهيمنة الفارسية، تمثلت
في:
1- تعزيز الطائفية :
من خلال استغلال المذهب الشيعي كوسيلة لاختراق المجتمعات العربية.
2- توظيف الإسلام السياسي :
دعم الحركات الأيديولوجية التي تُفرّق بين العرب أنفسهم.
3- التغلغل الثقافي:
تشويه التاريخ اليعربي والتركيز على أمجاد فارس القديمة.

هذه السياسات تهدف إلى تقويض الهوية العربية لصالح مشروع فارسي إقليمي.

الأعداء اللامتناهون : عوامل داخلية وخارجية

إلى جانب هذه القوى الكبرى، ثمة عوامل داخلية وخارجية لعبت دوراً في محاولة كسر الهوية العروبية :
1- الصراعات المذهبية :
التي أضعفت الوحدة العربية.
2-  التبعية السياسية المطلقة :
للدول الكبرى التي تفرض أجنداتها.
3- الإعلام المُوجَّه :
الذي يكرّس الصورة النمطية للعرب ويُضعف اعتزازهم بهويتهم.
4- الحركات العابرة للأوطان :
التي تتبنى هويات متعددة بدلاً من العروبة.

العروبة والهوية الإسلامية :
صراع أم تكامل؟

مع أن العروبة كانت الحاضنة الأساسية للإسلام، إلا أن محاولات خلق هوية إسلامية متعددة الأعراق والمذاهب جاءت على حساب الهوية العربية، ما أدى إلى :
1. تشتيت الولاء :
بين القومية والدين .
2- تجاهل الدور العروبي :
كقاعدة أساسية للنهضة الإسلامية.
3- إضعاف الوحدة :
عبر تقديم الإسلام كبديل عن القومية بدلاً من مكمّل لها.

مستقبل العروبة والتحديات المقبلة

إن الحفاظ على الهوية العروبية يتطلب مواجهة هذه التحديات عبر:

1-  تعزيز الوعي الثقافي والتاريخي.
2- إعادة إحياء المشروع القومي العربي.
3- مواجهة التدخلات الخارجية والتفتيت الداخلي.
4- بناء مؤسسات عربية جامعة، تُكرس الهوية العروبية دون إقصاء الإسلام.

ختاماً .. العروبة ليست مجرد إرث تاريخي، بل مشروع حضاري قابل للنهوض إذا توفرت الإرادة والعمل الجماعي لمواجهة الأعداء اللامتناهيين .

تعليقات