(الموتُ إِحدى الراحَتَين) ــــــ مَرثاةٌ للفاقِدِين ــــــ
شعر / يحيى الحمادي
بَحـرٌ مِـن الضَّوءِ.. غادِيـهِ، ورائِحُـهُ
لم يُنفِقِ العُمــرَ إِلّا وهـو رابِحُـهُ
ولا ادَّعَـى المَوتُ إِلّا أَنّها ارتَفـعَت
مَغسُولةً مِن أَسَى الدُّنيا جَوارِحُـهُ
والرُّوحُ أَلقَت عَصَاها، وهي راضِيةٌ
مَرضِيَّـةٌ، بَعــدَ عُمــرٍ جـاءَ كابِحُـهُ
فصاحِبُ الرُّوحِ -رَغمَ الحِرصِ- فاقِدُها
ورافِـعُ الرّأسِ -مهمـا عـاشَ- طارِحُـهُ
وخَشيَـةُ المَوتِ، مَوتٌ، لا عَـزاءَ له
لا يَأمَـنُ المَـوتَ إِلَّا مَـن يُصـالِحُـهُ
ما أَبعَـدَ المَوتَ مِمَّن يَحلمُـونَ به
وأَبعَــدَ العَيـشَ مِمَّـن لا يُبــارِحُـهُ
مَوتُ ابنِ حَـوَّاءَ إِحدَى الرّاحَتَينِ له
فكيف يَشتاقُ طولَ العيش، كادِحُـهُ!
مِـن رَحمــةِ اللهِ أَنَّـا لا نَعـيـشُ إِلى
أَن تأكلَ الحَـيَّ في الدُّنيا رَوائحُـهُ
دَعنا مِن المَوتِ.. لسنا مَن يُفَلسِفُـهُ
فالمَوتُ أَغمَضُ شَيءٍ فيه وَاضِحُـهُ
لم يَأتِنـا منـه مَيْـتٌ، كي يَقـولَ لنا
ما حُلوُهُ -عند مَن ذاقُوا- ومالِحُـهُ
يا خالِـدَ الذِّكرِ.. إِنّ المَيْتَ مَن طُوِيَت
أَخبـارُهُ.. ليس مَـن ناحَـت نَوائِحُـهُ
فافتَح لنا مِن (كِتابِ الحُبِّ) أُغنيةً
لا أَغـلَـقَ اللهُ سِفـرًا أَنتَ فاتِحُـهُ
وامدُد لنا مِن (كِتابِ الأَصدقاءِ) يَدًا
يا ماثِلًا لا يُجـافِي الصِّدقَ لامِحُـهُ
واسمَح بتَقـبيلِ رَأسٍ، لن يُجـازيَهُ
ما قال راثِيـهِ.. أَو ما قال مادِحُـهُ
دَينٌ علينا ثَقِيــــلٌ أَن نُجـازيَ مَن
مالَت مِن العِبءِ، وانهَدَّت جَوانِحُـهُ
يا أَكرَمَ الناسِ إِنصافًا.. وأَبخَلَهُـم
عَـداوَةً.. في زَمـانٍ قَــلَّ صالِحُـهُ
أَنتَ الـذي استَوقَدَتنـا أَبجَدِيَّـتُــهُ
جِيلًا على السَّطرِ لا تَخبُو قَرائحُـهُ
وأَنتَ مَن عاش يَسخُو دون مَصلَحةٍ
إِذ لم تكن -غيرَ أَن نَرقَـى- مصالِحُـهُ
كم كاتِبٍ كنتَ جِسرًا لِانطلاقتِـهِ
وباحِثٍ كنتَ أَوفَى مَن يُطارحُـهُ
وطالِبٍ كنتَ أَحنَى مِن أَبيهِ، إذا
رَآكَ -مِن قبلِ أَن تُـدعَى- تُفاتِحُـهُ
وشاعرٍ كان يَحبُو، فاهتَـدَيتَ إِلى
جَناحِـهِ، فهو زاهِي الرِّيشِ، جامِحُـهُ
كنا نَرَى الشِّعـرَ أَطيـافًا وأَخيِلَـةً
حـتى وَجَدنـاهُ إِنسـانًا نُصـافِحُـهُ
وها هو اليومَ يَنأَى نافِضًا يَدَهُ
كأنه قاعَ نَهرٍ جَـفَّ ناضِحُـهُ
ما إِنْ فَقَدناكَ، حتى قال قائِلُنا:
من يُرجعُ الشِّعرَ، والنائي (مَقالحُـهُ)!
******
يا داعيًا لِاعتِنـاقِ الحُبِّ، في وَطَـنٍ
منذ (امرِئِ القَيسِ) لم تَهدَأ “قَوارِحُـهُ”
وساعِيًا لِانعِتـاقِ العَقـلِ؛ ما سَئِمَت
يَومًا مَساعِيـهِ، أَو كَلَّت مفاتِحُـهُ
مِيراثُكَ اليومَ تَزهُـو الجامعاتُ به
والمَكتباتُ، ولكن.. أَين طامحُـهُ؟!
آثَرتَ بالنّفسِ شَعبًا، واحتَمَلتَ أَذى
أَعدائِـهِ.. وهو لَاهِي البالِ، سارحُـهُ
ما كنتَ تَرجُـوهُ إلَّا صَونَ موطنِهِ
مِن قبل أن تُرجِعَ الموتى ضَرائحُـهُ
وقبـلَ أَن يَستـديرَ القَـيـدُ ثانيـةً
في كَفِّـهِ، أَو يَحِـدَّ السّيفَ ذابحُـهُ
لكنــه اختـارَ نَهـجًـا لا يَليـقُ به
ولا بمَن عاش مَكدُودًا يُنافحُـهُ
فَليَنطَحِ الآنَ هذا الشعبُ غَفلَتَـهُ
إِن كان لا بُـدَّ مِن خَصمٍ يُناطحُـهُ
كافَحتَ سِتّينَ عامًا كي تُحـرِّرَهُ
مِن جَهـلِهِ.. وهو يَبنِي ما تكافحُـهُ
فعاشقُ الجَهـلِ، مَفتوحُ الفؤادِ له
مُدافـعٌ عنه، مهما احتالَ ناصِحُـهُ
ولا يَرى الظُّلمَ ظُلمًا، فهو يُلبِسـهُ
قَـداسـةً، كُلَّما ازدادت قَبائحُـهُ
وأَقبَـحُ الناسِ ظُلمًا “دون مَقـدرةٍ”
مَن يَمنحُ الظُّلمَ عُـذرًا، أَو يُسامِحُـهُ
*****
يا وَاسِعَ الصَّدرِ، هل في القَبرِ مُتَّسَعٌ
لِشاعِـرٍ لا يُطِيقُ الصَّمتَ بائِحُـهُ؟!
فالشِّعـرُ ما عاد يَدري ما قَضِيّـتُـهُ
والشاعرُ اليومَ مَن شاعَت فَضائحُـهُ
والشارعُ اليومَ مَقطوعُ اللِّسانِ، فما
عادت نَوادِيهِ تَحكِـي، أَو مَسارحُـهُ
والكَيدُ والقَيدُ عادَا ناقِمَـينِ على
مَن ضاقَ بِالحالِ، أَو مَن فاضَ طافحُـهُ
لم يَبقَ في الكَفِّ إِلّا أَن يَصيحَ دَمٌ:
عارٌ على الجُرحِ أَن يَرتاحَ جارحُـهُ
مَن يُقنِعُ الشعبَ أَنَّ الفَقرَ أَخطرُ ما
يُوَاجِهُ اليومَ، إِن قِيسَت جَوائحُـهُ!
فالفَـقـرُ مَدعـاةُ جَهـلٍ، وهو باذِرُهُ
في أَرضِـهِ، وهو ساقِيهِ، وفالحُـهُ
لا يَشتَهِـي الطّفـلُ أَقلامًا ملـوّنةً
وجُوعُهُ “مِن صَباحِ الصُّبحِ” نابِحُـهُ
بالعِلمِ والمـالِ تَبنِـي مَجـدَها أُممٌ
لا بالشعاراتِ، أَو مَن صاحَ صائِحُـهُ
والجَهلُ والفَقرُ في شَعبٍ إذا اجتَمَعـا
فإِنَّ أَتعَـسَ عَقــلٍ فيـه رَاجِـحُـهُ
كم هذه الأَرضُ حُبلَى بالنعيمِ، وكم
إِنسانُهـا في شَقـاءٍ لا يُراوحِـهُ
نامُوسُـهُ بين خَلقِ اللهِ منكـسرٌ
وعَيشُـهُ مُكفَهِـرُّ الوَجـهِ، كالِحُـهُ
لا يَبـلـغُ الـزادَ إلّا دافِعًا دَمَـهُ
أَو يُبصِرُ المالَ إِلّا وهو مانِحُـهُ
وما له مِن طُمُـوحٍ غَيرُ لُقمَتِـهِ
ما أَهوَنَ الشعبَ إِن هانَت مَطامِحُـهُ
يا واسِعَ الصَّدرِ، عُذرًا إن خَرَجتُ عن الـ
ـنصِّ الذي قد يُسِيءُ الظنَّ شارحُـهُ
ما جِئتُ أَرثِي فقيدًا فيكَ، بَل وَطنًا
في شَعبِهِ، لم أَجِد وَقتًا أُصارحُـهُ
يَصفَـرُّ إِن ماتَ مَيْتٌ في وِسادَتِـهِ
وشَعبُنا ماتَ.. فاخضَرَّت مَلامحُـهُ.