ليس لدينا نهرٌ؛ المقالح نِيلُنا.
ليس لدينا حدائقُ بابل؛ المقالح حديقتُنا المُحَلِّقة.
وليس لدينا أهراماتٌ؛ المقالح هرمُنا الأكبر.
يستطيع الرؤساءُ والملوكُ والأباطرةُ صناعةَ القادة والوجهاء والنبلاء؛ لكن إنساناً كعبدالعزيز المقالح لا يصنعه إلا الله.
عندما صمّم الخالقُ عقلَه ووجدانه، أراد له الحياةَ لألف سنةٍ وأكثر.
لم نجلس في حضرته، إلا وينتابنا الخشوع، وتُفعم قلوبنا بالجلال.
تستمع إليه، فترى ذاتَك كقصيدةِ حُبٍّ يهمس إيقاعُها في ثنايا روحك.
ها أنا، بخوف ووجل، أكتب عن الدكتور عبدالعزيز المقالح في وفاته.
فهل يستطيع الجدول أن يكتب عن البحر،
وهل تستطيع الشمعة أن تتخيل الشمس،
وهل تجرؤ الفكرة على ادّعاء الحكمة؟!
كان اليمن، سهلاً وبحراً وعسلاً وزهرة رمان.
هو صنعاء، عشقاً وأدباً وألماً.
هو عدن، فتنةً وغزلاً وشاطئَ عشاق. هو الوطن الجريح، حِقبُ الأنين ولحظاتُ الخيلاء.
هو ضميرُ الأمّة اليمنية.
هو اليمنُ الكبير.
كما جاء في الأثَر، يأتي كلَّ مائة عام مجدّدٌ؛ لكن الله أرسل المقالح لألف عامٍ ليجدّد عهدَ اليمن بذاتها القصوى، ويعيد اكتشاف مَراتعِ صِباها.
تخيلوا معي اليمن للحظةٍ بدون المقالح؛ ما أوهن قصيدتها وما أجدب وجدانها!
تماماً كما سيتخيل الإنجليز إنجلترا بدون شكسبير.
عندما تفرح اليمن، باح عموده بِرِفعتها. وعندما تئنّ اليمن، بكاها وانتحبنا.
هو أنجحُ من أحال تجربته الداخلية إلى إبداعٍ أدبيٍّ وفلسفيٍّ، ليكشف عن الجانب الأكثر خفاءً في أوجاع الناس. هو الشاعرُ الشامل، الذي كتب في الجمال والحب والوطن والصداقة. كتب قصيدةَ العمود والتفعيلة والنثر، فزادت بأعماله أرصدةُ الجمال لهذا البلد.
اخترق العزلةَ الأدبية التي أحاطت اليمن، وكسر قيودَها الصّدِئة، ليسمح بمرور الإبداع الشعري اليمني إلى كل العالم العربي. فهل عُرف شاعرٌ يمنيٌّ في العصر الحديث قبل أن كسر المقالح تلك القيود؟!
استضاف كبارَ الشعراء والأدباء والنقاد العرب، كأدونيس ومحمود درويش وسليمان العيسى، فعرفوا من خلاله اليمن وتغنّوا بها وأنصتوا إلى شعرائها.
قبل ثلاث سنوات اختارني الدكتور عبدالعزيز المقالح لتمثيله في استلام جائزة أمير الشعراء أحمد شوقي، كأول فائزٍ بها، مع الشاعر المصري الكبير أحمد عبدالمعطى حجازي.
شاعرُ اليمن الكبير يختصني أنا؟!
مازالت الدهشةُ تأسرني حتى اللحظة. شرفٌ لا يناله إلا ذو حظٍّ عظيمٍ، وشعورٌ غامرٌ بالعرفان والمسؤولية. كان الحفلُ في المَعْلم الأهم للحياة الأدبية والفنية في مصر – دار الأوبرا. وكان الحضورُ أنيقاً وملهماً؛ أدباء وشعراء ومفكرو مصر، ونخبة اليمن الأدبية والسياسية في أرض الكنانة. لم أرَ اليمن من قبلُ بذاك البهاء والجمال؛ فلا أحد يستطيع أن يرتفع باليمن إلى هذه المنزلة إلا قامةٌ بعلو قامة المقالح. فمكانة فقيدنا في مصر، وبين أدبائها، شاهقة.
بعد أن ألقيتُ كلمة المُحتَفَى به، قال لي الشاعر المصري الكبير أحمد عبدالمعطى حجازي: “إحمل تهنئتي إلى صديقي عبدالعزيز وقل له إن الجائزة شَرُفت به”.
حقاً، كانت لحظاتٍ تغصُّ باليمن الذي أراده.
كأحد أهم رُوّاد مدرسة الحداثة، لا تُدهشني في شعره قدرتُه على خلق فضائه المجازيّ الخاص فقط؛ بل أيضاً تلهمني نزعةُ التحرر لديه من قيود اللغة ومحاولة استنطاقها، واستخراج طاقاتٍ جديدةٍ فيها. فلطالما التقطْتُ في شعره حالاتِ صراعٍ بين مُتاحات اللغة وهالة الفكرة التي يريد أن يقولها، ليوصل مفاهيمَ مبتكرةً بآفاقٍ جديدة.
يُبهرني دائماً بالتوهج والكثافة؛ توهج الجمال وكثافة المعنى، في وحدةٍ موضوعيةٍ مُحكمة المعمار.
حافظَ على وشائجه مع التراث، دون تيهٍ أو شرودٍ، فأمستْ جلُّ إضافاته تنهمر أصيلةً على ساحات الشعر اليمني. وفي ذات الوقت، جلس على منصة الأدب العربي كأحد أمراء الشعر.
سبعةُ عقودٍ من الإبداع والتجديد؛ سبعة عقودٍ من الحب والروح الخالصة.
أنا مؤمن بأن الإنسان المبدع هو قدرةٌ روحيةٌ ونفسيةٌ ووجدانيةٌ، قبل أن يكون قدرةً عقليةً. معظم العقول النادرة انتهى بها المطاف إلى ثنايا النسيان وزوايا الإحباط، حينما قَصُرَت لديها متانةُ الروح وصلابةُ النفس. غير أن المقالح، لم يستكن، لم يقف، ولم تنل المكارهُ والعادياتُ من متانة نفسه، أو من جمال روحه وعمق وفتنة عباراته.
أبو الطيب المتنبي – أحد أهم ساكني الوجدان العربي وصائغي خياله – كان حقبةً زمنيةً تتجاوز الزمن، ومازال مورداً للحكمة والبهاء. باستثناء أبي فراس الحمداني، كل من عاش في زمن المتنبي، من الملوك والأمراء ودخلاء الأدب، انتهى بهم الأمرُ إلى العتمة، وبقي المتنبي.
كذلك المقالح، سيبقى حاضراً في الوجدان اليمنى والعربي لقرون كثيرة قادمة.
لا يذكر المقالح إلا ويحضر البردوني، ولا يأتي البردوني إلا ويهلّ المقالح، ولدى الكثيرين، ممن تنقصهم النباهةُ الأدبيةُ، نزعةٌ غيرُ حصيفةٍ لإقامة مقارنةٍ صفريةٍ بين الفَرْقدَيْن.
لم أشك يوماً في وجود علاقةٍ تنافسيةٍ بين القامتين، كدأب كل العمالقة؛ كما هو الحال جلياً مع كل الكبار، كطه حسين وعباس العقاد، أو محمود درويش وأدونيس، أو محمد الماغوط وأنسي الحاج.
نزعة التفوق على الذات لكليهما كانت فائقةَ الإلحاح. نزعة التفوق تلك كانت هبةً اختصّنا الله بها -نحن اليمنيين؛ فبها امتلكنا قامتيْن باسقتيْن تُعرف اليمن بهما.
خلال مدة معرفتي بالدكتور المقالح، كان دائماً يتحدث عن الأستاذ البردوني بأدب العلماء وباحترامٍ شديدٍ. وقال غير مرة إن تراث البردوني مازال بحاجةٍ إلى المزيد من الدراسة. لذا، من غير اللائق عقدُ مقارناتٍ بين سماء وسماء؛ بين مدرسةٍ ومدرسةٍ أخرى؛ بين شكسبير وفيكتور هوجو: بين بوشكين وغوته.
المقالح يعلم قَدَره، ويدرك أن رسالته ليس لها خاتمةُ مطاف؛ لذا ما انفكّ يرعى جيلاً من الشعراء الشباب توَسَّمَ فيهم حمْلَ لواء الشعر.
شعراء واعدون ليس هناك سقفٌ لنبوغهم، أمثال زين العابدين الضبيبي ويحيى الحمادي وهشام باشا، وغيرهم.
لم يفُكّ لهم شيفراتِ الإبداع الشعري، ولم يوفرْ لهم فرص التفتح والازهار، ويجنب النابهين منهم مزالق التيه والشرود فحسب؛ بل حرص على أن يحافظ على الشخصية الإبداعية الخاصة لدى كل واحدٍ منهم، حتى لا يكونوا مجردَ غابةٍ من الأصداء أو ساحةٍ من المتظاهرين تحت شعارٍ يَتيم.
ممتنّون له، مقدِّرون لما يمثله لنا، مُدركون مقامَه الأدبي، وفخورون بالمكانة الرمزية الرفيعة التي شغلها في الفضاء الثقافي العربي.
كم نحن محظوظون أننا جئنا في عصر المقالح!
لروحك السلام والرحمة والخلود.
- من صفحته في فيس بوك.