استحضر هدوؤهُ الممتلئ، ودأبه الهادئ، ومنجزه الشعري والتأليفي الشاسع، في مخيّلتي اسمين يمنيين لامعين؛ هما: أبو الحسن الهمداني، ونشوان الحِميري.
هو مثلهما، يمكن القول عنه: شاعر ومثقف يمني عبر العصور.
لديه طول نَفَس مذهل؛ استمرّ نصف قرن يدق على النغمة اليمنية نفسها بتنويعات إبداعية لا حصر لها. دأب شفاف وهادئ وممتلئ بتصميم عنيد لا يلين، وجدنا أنفسنا أمامه بعد نصف قرن مدعوِين إلى النظر في ستين مؤلفاً؛ تتوزع بين الشعر والنقد، والتاريخ والوطنية اليمنية، والفكر الديني والرموز التاريخية والوطنية، وغيرها، وبجانبها مكتبة ضخمة من الكتابات والدراسات عنه، وعن مؤلفاته وفعاليته الواسعة الأرجاء.
بإمكان كل من ينظر في منجزه الشعري والأدبي أن يسميه “الشاعر والأديب العربي”، إذ كان واحدا من أهم شعراء العرب، ونقاد الأدب لديهم في القرن العشرين.
وبإمكان البعض أن يطلق عليه “الشاعر والأديب اليمني العابر لكل العصور”.
أما نحن -أبناء هذه اليمن الممزقة، التي لملمها في قصائده وزوايا قلبه- فإننا نعرف أنه مِنَّا نحن اليمنيين، وأنه ما كان ليكرّس نفسه شاعراً وأديباً على مستوى اليمن والوطن العربي، لولا ذلك الانشغال الذي لا يهدأ بهذه البلاد وناسها.
الدكتور عبدالعزيز المقالح من تلك النوعية النادرة، التي يُقال عنها “يحمل همّ بلاد بأكملها”.
ما الذي يمكن أن نكتبه عن عبدالعزيز المقالح! شخصية ملء السمع والبصر في اليمن والبلاد العربية، الكل قرأ له إلى هذا الحد أو ذاك. الكل سمع به وتنفّسه كل يوم كما تنتظم رئتاه في تنفس الأكسجين. وصل إلى آفاق بعيدة داخل اليمن وخارجها. حضور ملأ الآفاق، وكما يُقال: فإن المعروف لا يُعرف.
كتب الكثيرون عنه. وكُتبت رسائل جامعية، وأُلفت كُتب كثيرة، وكُتبت مقالات ودراسات، تتناول شعره ونثره ودراساته وسيرته الشخصية. وسوف يبقى شعره وكتبه النقدية، ودراساته ومنجزه الأدبي والثقافي الضخم والشاسع لزمن طويل، مرجعاً يعود إليه القُراء، وموضع اهتمام ودراسة للباحثين والنّقاد والمثقفين.
الكتابة عن الدكتور عبدالعزيز المقالح هي كتابة عن اليمن، لا فحسب عن شخصيّته وسيرته الذاتية.
عندما نستذكره ونحتفي به، نحاول أن نتذكّر أنفسنا وشخصيّتنا الوطنية الثقافية في أبهى تجلياتها.
سيمضي زمن طويل قبل أن تعرف اليمن شاعرا وأديبا ومثقفا بثراء ومكانة الدكتور عبد العزيز المفالح.
منجز شعري مكتمل وشاسع، قدرة على التمازج مع الهم الوطني والثقافي والأدبي والكتابة حوله، واستقصاء دلالاته وأبعاده كلها: 23 ديوان شعر، 40 كتاباً، مقالات، حضور فعّال في الفعاليات الأدبية والهم الوطني والثقافي، حتى تكاد أن تراه متماهياً باليمن، ولا يكاد ينفصل عنها: شعرا وأدبا وثقافة وتأليفا وموقفا ونبضا؛ تنتظم إيقاعاته بالبلاد وناسها وترابها وجبالها، تراثها وأغانيها وأدبها وتاريخها الضاربة جذوره في الأعماق.
تكوّنت شخصية الدكتور عبدالعزيز المقالح في لحظة فاصلة بين زمنين في تاريخ اليمن: قيام الجمهورية بعد ثورة سبتمبر 62.
وما بين زمنٍ ذاهبٍ وزمنٍ آيبٍ، خُلق شاعر وأديب ومثقف سيكون علامة الزمن الجديد لأكثر من نصف قرن في حياته، وعبر كل العصور بعد رحيله.
التأمل، في لحظة كهذه، سيقول شيئاً واحداً: إن الأقدار قد عملت لصالحه في لحظة فارقة بدأ وعيه بالحياة ينضج وتتشكل ملامحه الأساسية.
حفرت الجمهورية حروفها وهويتها في وجدان المقالح، وتكوّنت ملامح شخصيته وشعره وأدبه وحضوره العام على إيقاعات حروفها ومعناها، وما مثلته لليمنيين من لحظة فاصلة بين زمنين.
الروح الوطنية في وجدان المقالح تحوّلت إلى أشعار وقصائد رافقت ميلاد اليمن، وما واجهته من حواجز وتحدّيات في عقدي الستينات والسبعينات. واستمرت نغمتها تحدد اتجاه الشاعر وجماليات قصائده البديعة حتى رحيله.
شعر تقرأ فيه صوت الناس، ومعنى الوطن، وتأملات الذات، دونما ارتكاس في المباشر والآني، أو تِيه في الذات يحوّل ما يصدر عنها إلى هذيان فارغ.
– الفعل الخلاق بين ضفتين متناقضتين
احتمى المقالح بحساسيّته الوطنية، وإحساسه كشاعر ووضوح رؤيته؛ متجنباً كل اشتباك عبثي خارج ما حدده ورآه ناظماً لتوجّهه وفعاليته في اللحظة الأولى، ذاتياً ووطنياً.
كان شاعراً ومنتمياً لوطن، شكله في وجدانه، وشارك في رسم ملامحه خطوة إثر أخرى مع كل الناس من حوله؛ رفاقه وأصدقائه وزملائه، ومن شاركهم القصيدة والهم العام والانتماء، والتماهي مع اليمن.
كفّرهُ المتطرفون في مفترق السبعينات والثمانينات، وخوّنه المزايدون بعدها، أولئك الذين يقيسون بمسطرة شطحاتهم العمياء.
كان تجار الدّين، ورموز الماضي التقليدي، يطلقون سهامهم نحوه من متارس السلطة وأوكارها. وبعض رفاق الكلمة والانتماء لليمن والزمن الجديد يتهامسون حوله، وكأنهم فقدوا قدرتهم على رؤية الحقيقة، والرمز الضاربة جذوره في تربة البلاد وأحلامها بمستقبل مختلف عن إرث التخلف وشبكاته المتناسلة؛ حواجز وجدران تسد أفق البلاد.
أدرك المقالح بعين القلب أن إرث الماضي أكثر تعقيداً من أن يُطمئِن اليمن الجديد أنه تجاوزه.
جِذْر هدوءِهُ وصبرِه ومراهنتهِ على التأثير الأدبي والثقافي والتعليمي والوطني الهادئ بعيد المدى، يقع هنا.
هدوءُه ودأبهُ في نشر الثقافة والتعليم، وتدوين تاريخ اليمن، وتبجيلُ موروثها الحضاري، وشعرائها ورموزها الوطنية، توسيع رقعة الثقافة والأدب وتشجيع الأدباء الشباب، تعبيراتٌ متنوّعة عن رؤية بعيدة تدرك حجم الإرث المظلم، وتتوخى اقتلاعه من جذوره دونما ضجيج، أو صراخ شاطح.
الفارقُ يقع هنا. لا تقول جديدا عندما يكون كل شيء واضحاً، والجميع يئِن تحت وقع الانهيار. الرؤية بعيدة المدى هي ما يرى حجم الإرث الثقيل المظلم، ويسعى لتقليل فرصه بالعودة، عندما يكون الأغلب غارقين في المنافحة عن مراهقتهم وانقساماتهم كقوى يفترض أنها حديثة وموحّدة الهدف والرؤية والموقف.
ألا تحتاج البلدان -في لحظة التأسيس- إلى إجماعات كهذه؟ إجماعات تحسم ما هو مشترك بين الناس: المواطنة، المساواة، كرامة الإنسان، مرجعية الشعب كمصدر للسلطة، الحقوق والحريات، الهوية الوطنية الجامعة.
هو كان يدرك كل ذلك. يتلقّى الطعنات من قوى دِينية ظلامية وتقليدية هي متن السلطة تتهمه بالكفر والهوى اليساري مع كل قصيدة جديدة يكتبها، أو فعالية يقيمها في مركز الدراسات والبحوث، أو جيل جديد يتخلق في جامعة صنعاء.
وفي الوقت نفسه، يواجه شطحات المتطرّفين على يساره، مع أنه في مُتن الحركة الوطنية اليمنية؛ انتماءً للجمهورية ومبادئها، وفي ريادة الفعل الأدبي والثقافي، شاعراً ومثقفاً وأكاديمياً.
– شعر ومؤلفات، مركز دراسات وجامعة جاذبة للعرب
ليس ضمن اهتمامي هنا استعراض دواوين المقالح الشعرية، ومؤلفاته في الأدب والنقد والفكر السياسي والديني، وتاريخ اليمن وقضاياه، ورموزه الثقافية والتاريخية.
أحاول فحسب هنا، كتابة مقالة عابرة؛ همها الأساسي المساهمة في إحياء رمزيته الأدبية والثقافية في ذكرى رحيله الثانية “28 نوفمبر 2024”.
الكتابة السِّيرية ليست ضمن اهتمامي. أكتب مستضيئاً بسؤال: كيف رأيت المقالح؟ وماذا يعني لي ولأجيال من اليمنيين كان رمزهم الأدبي والثقافي في بلاد يُراد لها أن تكون قاعاً صفصفاً من الثقافة والأدب والمعرفة والعِلم والتعليم؟
ماذا عن دواوينه الشعرية، مؤلفاته التي تجاوزت الأربعين، رئاسته جامعة صنعاء، ومركز الدراسات والبحوث؟
هذا المُتن مَلأ السمع والبصر. عرفه اليمنيون والعرب، وكُتبت عنه مئات المؤلفات، ما بين رسائل جامعية وكُتب ودراسات وأبحاث ومقالات، وما زالت تُكتب، وسوف تستمر.
لذا، سأكتفي هنا باستعراض سريع في إرث المقالح الشعري والأدبي والثقافي، وهو منجز شاسع قلَّ نظيره في اليمن والوطن العربي.
رغم كونه من أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين، فإن المقالح لم يكن مجرد شاعر وكفى. كان مثقفاً شاملاً، وناقداً، وأستاذاً جامعياً، وقامة أدبية عظيمة ألهمت أجيالاً من الأدباء والشعراء؛ في اليمن والبلاد العربية.
أول ديوان صدر له عام 1971 بعنوان “لا بُد من صنعاء”، وآخر ديوان صدر عام 2020 بعنوان “يوتوبيا وقصائد للشمس والمطر”.
وما بين فاتحة الشعر وختامهُ 21 ديواناً؛ تُقدم رحلة ثرية متعددة الأبعاد، عكست تجربة المقالح ونظرته وتأملاته وتجاربه في كل ما شغل وجدانه وأحاسيسه وتفكيره.
إلى جانب كونه شاعراً رائداً، ترك عبدالعزيز المقالح إرثاً فكرياً ونقدياً غنياً ومتنوّعاً في مجالات الأدب والثقافة والتاريخ والفكر.
الكتابة النقدية في الأدب اليمني هي أولى اهتماماته التأليفية؛ يكفي أن نعرف أن رسالتيه للماجستير والدكتوراة تندرجان تحت هذا الاهتمام؛ وقُدِمتا لجامعة عين شمس في السبعينات؛ الماجستير بعنوان: “قراءة في أدب اليمن المعاصر”، والدكتوراة كانت حول: “شعر العامية في اليمن”، وكتبتُ عنها مقالتين في الأسابيع الأخيرة.
إلى جانب هاذين الكتابين، ألَّف المقالح ما يقرب من أربعين كتاباً؛ توزعت بين النقد الأدبي للأدب اليمني والعربي، التاريخ، الفكر، الشخصيات التاريخية والوطنية، وغيرها من الاهتمامات الثقافية والمعرفية.
هذا الإرث النقدي يجعل من المقالح أحد أهم المثقفين العرب، الذين أثروا المشهد الثقافي اليمني والعربي، خلال القرن الماضي.
إلى كونه شاعراً وناقداً؛ كان المقالح أكاديمياً قضى ما يقرب من عقدين رئيساً لجامعة صنعاء (1982-2001)، كان عمرها عشر سنوات ونيف حين تولى رئاستها؛ جامعة جديدة في بلد بدأ لتوّه يتلمس طريقه في التأهيل العلمي لأبنائه، ومع ذلك اجتذبت الجامعة الناشئة في بلد فقير -خلال رئاسته لها- أسماء عربية رنانة للتدريس فيها، أو إلقاء محاضرات موسمية.
دكاترة عرب في اللغة والأدب والتاريخ والآثار، وفي كل مجال، رفعوا من مكانة الجامعة عربياً، حتى إن الكثيرين كانوا يطلقون عليها “الجامعة العربية”.
من بين الأسماء العربية، التي قدِمت للتدريس وإلقاء المحاضرات في كليات جامعة صنعاء:
شاكر خصباك، محمد عابد الجابري، كمال أبو ديب، علي جعفر العلاق، حاتم الصكر، إبراهيم الجرادي، عز الدين إسماعيل، محمد عبدالمطلب، قاسم حداد، محمد بنيس، والناقدتان وجدان الصايغ ويمنى العيد.
ساهم تواجد هؤلاء في تحفيز الوسط الأدبي والثقافي في اليمن، وربطه بالمشهد الأدبي العربي. احتك بهم الأدباء اليمنيون، وجالسوهم في منتدى “الدكتور المقالح”، والندوات والفعاليات المتنوّعة، التي شاركوا فيها أثناء وجودهم في صنعاء.
– وداع أخير
حين زرت الدكتور عبدالعزيز المقالح، قبل رحيله بعدة أشهر، فاجأني بحضوره الذهني، وانتباهه لمحدِثه كأن الشيخوخة عنده اضمحلال جسدي يتناقض تماما مع طاقة حيوية عذبة في حالة انسياب وبهاء لا تعرف الوهن.
هذا الانسجام الطاقي العصبي الملحوظ هو نتاج لروح وصلت ذُراها في أواخر العمر، متجاوزة كل الإعاقات الطاقية المتوقعة لرجل يمر بعقده الثامن.
بقي الدكتور المقالح يهزم الشيخوخة في كل يوم جديد ينبض فيه جسده الذاوي بِنَفَسْ الحياة.
نهر من الهدوء الكثيف كانت سنواته الأخيرة.
صمت متحد بالوجود.
كان، كلما اقترب من خط العمر الأخير، تتوهج شاعريته أكثر.
وكان، كلما ذوى جسدهُ، شف شعرهُ، وصفى ذهنهُ، وبدت قصائدهُ نقية كلحظات انبلاج الصباح.
آهٍ.. لو كان للمتميزين أجساد احتياطية تسعفهم في لحظات الكثافة القصوى.. لحظات اكتمال التجربة والتجرد الأقصى للذهن والنقاء الأصفى للروح، والتحليق الأعلى للمخيلة.
كتب عبدالعزيز المقالح قصائدهُ في سنوات اشتداد المرض بطمأنينة روح يملؤها السلام، وهدوء أخّاذ يفيضُ بالمعنى؛
ينساب مثل ماء عذب نقي تتدحرج قطراته من شق جبل خالٍ من أي ضجيج.
كلمات كأنها قطرات نقية تتسرّب فيك بهدوء، وتأخذك إلى حالة سلام مع ذاتك، ومع الحياة، ومع الكون كله.
طمأنينة الطائر عالياً فوق الحزن والصراع والآلام والدماء والأشلاء.
طمأنينة لا يخدش صفحتها غير ذاك الود الفائض خلف الكلمات، وكأنه لصديق تعرف أنك لن تراه بعدها.
وداعة المحب قبل الرحيل، والوداع في كلمة أخيرة من شاعرٍ طبع زماننا باسمهِ، وكان جزءًا منّا، ووجد نفسه على حافة الرّحيل، فإذا هو يستجمع كل ما تبقّى له من كومة أعصاب ليكتب قصائد الوداع الأخيرة.
كانت قصائده تلك تحية وداعٍ تتدفق بالتناغم والمحبة، يلقي بها وسط حالة جنونية تعمّ هذه البلاد، ولا تريد أن تصل إلى مرساها الأخير.
____
* لـ موقع ( بلقيس )