تمرُّ الدولُ أحيانًا بمنعطَفاتٍ وأزمَاتٍ خَطِرةٍ تستدعي التعاملَ بحكمةٍ، ولا شيءَ غير الحكمة، لتجاوزها، وإلا تآكلتْ وتقزَّمتْ لتتلاشى وتتضاءلَ فيها فكرةُ الدولة بسيَادتِها وقُدسِيَّتها لصالح اِتخَام المآربِ الشخصية وإذكاءِ المشاريعِ الضيِّقة التي لا تُسمنُ ولا تُغني عن كيانِ الدولة.
في يمننا الحبيب – للأسف- اهتزَّت فكرةُ الدولةِ وتآكلت تدريجيًا، وقد مرَّ ذلك الاهتزازُ والتآكلُ بمراحلَ متعددةٍ ارتبطَت بأحداثٍ مفصليةٍ كان من قَدَرِها تغييرُ التاريخ وقتلُ الطموحاتِ الجميلة ليتولّدَ عنها إتعاسُ اليمن (السعيد) وإدخالُ اليمنيين في دوَّامةٍ منَ الأزماتِ المتلاحقة واللا متناهية مدةً تقاربُ العقدَ والنصف، وتلك مدةٌ ليست بالهيِّنة إذ نصفها كفيلٌ ببناءِ دولٍ من بداياتها الصِّفرية، لكنها ضاعت من عُمر التنمية اليمنية وللأسف استُنزِفَت في الهَدم والدَّمار، وأشاخَت معها كثيرًا من اليمنيين الذين كانت أقصى أحلامهم: العيشة المكتفية بالإطعام من جوعٍ والأمن من خوف، مغلفةً بفضيلتي السِّترِ والرِّضَا.
لقد كانَ أُولى المطبّات التي هزَّت بنيانَ الدولة هو “حراك فبراير ٢٠١١م” وبسببه كادت أن تقع، لولا عملية المصالحة التي قادتها دول مجلس التعاون الخليجي لإنهاء الأزمة الحاصلة آنذاك من خلال مقترحها بالحل السلمي عبر “المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية” التي توافقت الأحزاب والمكونات السياسية يومها على قبولها تغليباً لمنطقِ العقلِ والحكمة – ويبدو أنَّ حبّةَ المنطقِ تلك كانت آخرَ ما في شريطِ العلبةِ العلاجية- ليعقبَ انتهاءَ مفعولها ” هزة سبتمبر ٢٠١٤م “التي دقَّت آخرَ مسمارٍ في نعشِ ذلك التوافق السياسي (الآلية الصُّلحيّة المؤقتة لحكم البلاد والوصول بها لبر الأمان) واستبدالها بسياسةِ الاستفرادِ والقوة، لتكونَ تلك السياسةُ مقدمةً جالبةً لـ “حرب مارس ٢٠١٥”، التي أعقبها انهيار مؤسسات الدولة وبُناها التحتية، وهَوَت بها وباليمنيين في مكانٍ سَحِيق، إلى قاعِ اللا دولة وقمَّةِ المعاناة الأليمة.
يبحثُ اليمنييونَ اليوم عَمَّا يخرجُهم من ظُلُماتِ قاعِ تلك الهاوية إلى نُورِ حَلٍّ يعيدُ لهم دولتهم المفقودة وينقذُهم من براثِن تلك المعاناة التي استدَامت وأصبحَت أصلاً في حياتهم لا استثناءً عابرًا، ويتُوقُون لِوَصْفَةِ الخَلاص عاجِلاً لا آجلاً. لا شكَّ أنَّ عواملَ التدخل الخارجي من بعض الدول التي جعلت من الساحة اليمنية ملعبًا لِتصفيةِ صِراعاتِها أو مطمعًا لتوسِعةِ نُفوذِها لهُ أثرهُ في إطالة أمدِ واقعنا المأسَاوي، لكنّ العوامل الداخلية وبنسبةٍ أكبر هي كذلك ما يعينُ على عدمِ الانفراجَةِ في الملف السياسي اليمني، فأيُّ حَلٍ لذلكَ الملف لَنْ يأتي إلا مِن قناعةٍ يمنيةٍ خالصةٍ ابتداءً، فمفتاحُ الحَلِّ أولاً وأخيرًا هو بيد اليمنيين أنفسهم. وإذا كانَ بعضُ القرارِ اليمني مرتبطًا ارتباطاً وثيقاً بالخارج وذاك أمر ليس بالخافي، فإنَّ القرارَ الشعبي العام يظلُّ هو القرار الحاسم عند اللزوم، وما يصدِّق ذلك القولَ ويعضدُه هو ثوراتُ الشُّعوبِ التي تعصِفُ بأنظمتها القائمةِ والأطرافِ المرتبطةِ بأجندةٍ خارجيةٍ مهما بلغت قوتها ونفوذها، وفي ذلك تأكيدٌ على أنَّ الشعب – عندما يصبح جاهزًا للتغيير – ستكون كلمتهُ هي العليا وإرادتةُ هي الفَصل، لا معقّبَ لكلمتهِ ولا رادَّ لإرادتِه.
صحيحٌ أنَّ كثيرًا مِنَ جُموعِ الشَّعب اليمني مُنضويةٌ تحتَ عباءة الأحزاب والمكوناتِ السياسية التي تتحكَّم قياداتُها بقراراتِهم المصيرية، لكننا إذا التفتنا يمينًا ويسَارًا بحثًا عن كثافة التواجد الشعبي فسنجدُ أنَّ المؤتمر الشعبي العام هو الأكثر شعبيةً في الساحة والأكثر امتدادًا في رقعةِ الجغرافية اليمنية والأكثرُ تنوُّعًا في كوادره، وأكاد أجزمُ أنَّ هذا الحزبَ كان يعدُّ الرَّمزَ السِّري وبوابةَ الخلاص في اليمن، ولذا تمّ تجزأتهُ وتشطيرُه بعد أنْ عجزُوا عنْ وَأْدِه، وعمدوا إلى إبعاده عن المشهد السياسي ومفاصل الدولة العليا وسلطة اتخاذ القرارات فيها، خصوصاً عقب انطلاق عاصفة الحزم وحركة الثاني من ديسمبر ٢٠١٧، إلا أنه مؤخرًا أدركت معظم القوى المحلية والدولية (الشرعية ودول التحالف) خطأ ذلك الإبعاد الذي اتَّسَعت معه فجوةُ انهيار الدولة، وتلاشَى أيُّ بصيصِ أملٍ لإبرام الحل السياسي ومعالجة المعضلات الاقتصادية المرتبطة به، وأنّه لا بدَّ لحزب المؤتمر مِنْ لعب دورٍ أساسي وريادي لتسييرِ دفَّة هذهِ المرحلةِ لبرِّ الأمان. مع التنويه إلى أنّ مؤتمر الداخل قد تم مؤخرًا إقصاؤهُ كليًّا من قبل حكومة صنعاء بعد محاولة سابقةٍ للقضاءِ عليه.
لا يخالجُ أولى النظر والبصيرة شَكٌّ بأهمية حزبِ المؤتمر الشعبي العام وأنّهُ القطعةُ الضائعةُ لاكتمالِ رقعةِ الحل بنسختها المبدئية على الأقل، في ظل عدم انصياع أنصار اللَّهِ في الشمال والمجلس الانتقالي في الجنوب لمبادرات التسوية الشاملة، فالتعويلُ عليه باتَ كبيرًا جدًا، خصوصاً وأنهُ حزبٌ يمنيُّ المَنشأْ والأيديولوجية، يحتضنُ تحت مظلتهِ قاماتٍ لا حصرَ لها من ذوي الكفاءاتِ السياسية والإدارية والاقتصادية والدبلوماسية العالية والخبرات المجربة التي صقَلها الميدانُ سِلمًا وحربًا، فضلاً عن القاعدة الشعبية العريضة الملتفة حوله، فلا بدَّ اليوم مِنَ الاستعانة بهذا الحزب وكوادرهِ لحلحلة أوضاعِ اليمن الراهنة، وفَكِّ شفرة طلاسِم تعقيداتها، فهو وبلا شك العَالِم بخفايا أمورها، وحتماً لديه مفاتيحُ حلولها.
ولا تقفُ حاجةُ اليمن إلى حزب الموتمر الشعبي العام عند ذلك، بل أيضًا تحتاجه لبقاء المناخ السياسي فيها قائمًا، فهو إكسِيرُ حياتها، كيف لا وهو الحزب الذي أدارَ البلاد لأكثرَ من ثلاثةِ عقودٍ، وشجَّع التعدديةَ السياسيةَ فيها، بل وساهمَ في وجودها، وقدّم لها دعمَ الدولة لتساهمَ في ممارسةِ رقابةٍ إيجابيةٍ على السلطة الحاكمة بما يحولُ دونَ تسلُّطِها وبما يعينُ في تنميةِ البلادِ وتطويرها، ولكن للأسف لم تحقق تلك التعددية في مجملها غايتها المرجوة بل انحرفت بها إلى محاولة إسقاط الدولة، وبالتالي تتحمل تلك الأحزابُ جزءًا من مسئوليةَ ما وصلنا إليه اليوم.
كما يتحمل حزب المؤتمر الشعبي العام جزءًا من المسئولية كذلك، فلا ننكر أنّ للحزب مثالبَ وأخطاءً – بعضها جسيمة – اِعترتْ مسيرتَه السياسية وقد دفع ثمنها، ولا زال. لكنهُ مع ذلك يظلُّ أبَ الأحزابِ وحزبَ الدولة الأعرَق الذي يعوَّل عليهِ أغلبُ اليمنيين بتعاونه مع كافة شرفاء الوطن وأحزابها الوطنية لإخراج البلاد من مأزقها الراهن؛ لذا يستوجب الأمر على العقلاء، وبخاصةٍ عقلاء الحزب، السَّعي لتوحيد الصف المؤتمري (بأجنحته الثلاثة) أولاً، ومن ثم العمل على تقاربه مع بقية الأحزاب، فتلك هي شيفرا الحل للوضع السياسي الملغّز في اليمن.
إنَّ الحقيقة الفارضة واقعيتها على الأرض التي لا يمكن التَّنكُّر لها هي أنَّ المؤتمر الشعبي العام يمثل الرأسَ من جسد الأحزاب والقوى السياسية، وعليه فإذا كان التقارب بين معظم المكونات والأحزاب السياسية – عدا مكوني أنصار الله والمجلس الانتقالي – قد وجد طريقه للتنفيذ عبر يافطة “التكتل الوطني للأحزاب والقوى السياسية” المْشهر في عدن بداية نوفمبر الحالي والمنخرط فيه قرابة ٢٢ حزبًا ومكوناً سياسياً، فستظلُّ الخطوةُ الأهم والنَّواةُ الأولى لنجاحِ ذلك التكتل وإيتائهِ أُكُلَه مرهونةً بالتقارب المؤتمري المؤتمري وإعادة التئامِهِ واندماجهِ في قالبٍ واحدٍ، ينتج عنه واحدِيَّةُ القيادةِ والقرارِ والمصير.
وممّا لا شَكّ فيه، هو قدرة المؤتمريين على توحيد صفِّهم إن أرادوا وغلّبوا المصلحة العليا للحزب واليمن، وتحركَ المخلَصون منهم – وبالأخص سعادة (السفير أحمد علي عبدالله صالح)، لنفوذهِ البارز وقدرته على لعِب ذلك الدور – لتحقيق تلك الغاية، ولو على مرحلتين: تبدأ أولاها بالتقارب بين جناحي مؤتمر الخارج الموزعة بين جناح الشرعية، وجناح أبو ظبي والقاهرة المحسوب على نجل الرئيس الأسبق – مؤسس الحزب وقائده لأربعةِ عقودٍ الزعيم علي عبدالله صالح رحمهُ اللَّه تعالى – ثم تبدأ المرحلة الثانية بتقارب مؤتمريي الخارج والداخل، ليتمَّ عقبَ ذلك التَّوحدِ انعقادُ الموتمر العام أو التوافق لاختيار قيادةٍ جديدةٍ تحمل رايةَ الكفاح الحزبي على عاتقها وصولاً لتحقيق غاية استقرار البلاد على صعيديها السياسي والاقتصادي وانتهاءً بإتمام عملية الحل الشاملة في اليمن.
نثقُ ويثقُ جموعُ الشَّعب اليمني مِن أدناهُ إلى أقصاه، في الداخل والخارج في قدرةِ هذا الحزبِ العريق والرائد على التعافي السريع ولملمة لُحمَتهِ من جديد، وتوحيد صفَّهِ تحتَ قيادةٍ جديدة موحدة، تنتشلهُ من حالة تشرذمه الراهنة، وفترة ضعفه وخموله المؤقتة التي هي في الحقيقة فترة نقاهة، إنْ صَحَّ التعبير، عاشها الحزبُ المثخنُ من غدرِ القريبِ وتربّصِ البعيد، وآن الأوان ليعودَ له ألقُهُ وبَصمتُه الوطنية والتاريخية، لتحقيق (عودة يمن الدولة، ورفع معاناة اليمنيين).
ختاماً، نؤكد أنه لم يَعُد لليمنيين إلا ذلك الأمل المُرتقَب، أمل العودة الحميدة لحزب المؤتمر الشعبي العام ( المُوحَّد )، فعودتهُ باتَ معوَّلاً عليها عودةُ اليمنِ المكلوم إلى سابق عهده وعُنفوانِ مجدِه ورخاءِ شَعبهِ وعزِّه، وذلك مطمَعٌ تلهجُ بالدَّعاءِ لهُ الألسُن وترتفعُ لهُ الأكُف.
* طالب دكتوراه دراسات عليا.
٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤