أنا لم أزل وحدي هناك .. تتكسر الذكرى مع ريح الفصول، فلا ربيع يدون ذكرياتي في جناح فراشة، لا غيمة تسقي الفؤاد بداية أخرى لأحشد ذكرياتي، ثم أتبع ما تناثر في الدروب من النجوم.
كل المدائن في جهات الريح تنثر ما تبقى من حنين، و تصلب كلما عبرت خطاي على بقايا شارع نبتت على جدرانه غيم الطفولة. الكل يحمل في البلاد منافي الآمال و الأحلام و الدرب الذي لم يتضح معناه للأصحاب. و الكل يحمل في المنافي موطنا، مازلت ابحث كيف تدركه خطاي، و كيف آوي كلما دلف الحنين الى ظلال قصيدتي الأخيرة.
أنا لم أزل وحدي هناك .. منفاي في لغتي، انشر في جناح الغيب أغنية و أجهش بالصدى. أصطاد سنبلة بقافية، و أحرس ذكرياتي، كي أعلق في مدارات الرحيل هويتي و مداد أحزاني و أشرعة الخيال. أنا من يراوده البقاء على التناسي، و من يكتب ليبقى العمر نافذة الى مدن الضياء.
ماذا تبقى في الدروب لكي تدون ذكرياتك. شاخ المجاز و أنت تركض في جهات القادم المجهول. لا خيل يعدو خلف أسوار البحيرات التي امتلأت صدى. لا دربا تعلق في فضائه ذكرياتك منذ الرحلة الأولى الى مدن الشتات. لا صوتا يمد خطاك كي تلد الغيوم ما علقت في هذا المدى المنسي من أشجان.
كل الذين أتوا، تواروا في الظلام. إلاك من يستنشق الأجراس في مدن القصيد، و يشد سارية المجاز الى بحار الضوء. يستجدي ينابيع الخيال و يعتلي درب النجوم. فلا حياة بلا خطى تعدو على مدن الرياح، و تطوع الأقمار في درب تجاوز خارطة الظلام.
فليتسع هذا الفضاء لكي ندون في حقول النور آخر ملحمة للعبور. أنت المفرد التكوين، أنت النبؤات التي سكنت حنين الفجر، و أنت من عبر الدروب محملا عشب الخلود. أنت أكتمال قصيدة الدنيا، وأول من أعاد الخيل نحو مدائن الله. أنت التجلي في مرايا الرحلة الأولى على طرق الزمان، و أنت من يخطو على الرهو، كي يبقى الخلاص منارة للتائهين على حدود الغيب. فلتكن غيم التجلي في القلوب، و صوتنا المكسور إذا تداخلت الدروب. و لتكن كل الذي ترجوا، لنعبر فوق صوت الناي نحو فضائنا الممتد في كل الجهات.
أنا لم أزل وحدي هناك .. لا شيء آخر يسكن الدنيا سوى النسيان. لا شيء آخر يعبر الكلمات سوى الذكرى. و ما سيجيء غيم لا تزال الريح تدفعه الى الأنهار كي تستيقظ الأمم القديمة في خيالي. أنا لم أزل وحدي هناك .. ظلي الحجري , رائحة الحنين ، و ما تشرب في دمي من موت، سنعبر كلما ترك الجدود من الصدى المكتظ بالذكرى و بالنسيان.