منبر حر لكل اليمنيين

الـيمن الخالي مـن دسَم الدولـة

إبراهيم الأهدل

39

تاهت بنا السُّبُل وتشعبت طرقُ الاجتماعِ على حَلٍّ يخرجنا من عُنقِ الزجاجة الخانق .. وبتنا نعيشُ في رقعةٍ من أرضٍ تدعى (اليمن) لكنها جغرافيةٌ بلا روح، إذْ روحُ الجغرافية كما هو معلوم تتجسد في وجود رمزيَّة الدولة. وفي عصرنا الحديث لا غنى عن تلك الرمزية التي تعدُّ الشَّكلية الأفضل لِسَوسِ المجتمعاتِ على هدىً من التقدم والتطور الحضاري في شتى مجالات الحياة بكافة تفرعاتها وتفاصيلها، والطريقةَ الأسمى لنبذِ شريعةِ الغاب التي تسود -حتماً – عند غياب تلك الرمزية.

ولا نقصد بالدولة ذلك المفهوم العام المتمثل في المثلث ذي الأضلاع الثلاثة : الإقليم، الشعب، النظام السياسي، بقدر ما نعني بها الدولة ذات المفهوم الخاص المرتبط باستقرار ذلك النظام السياسي وبسط هيمنته على سائر الجغرافيا غير المقطعة الأوصال وانصياع الناس لذلك النظام برضاهم التام، وتلك معادلة الدولة في منظور النظرية القانونية.

أما إنْ رُمنا التعمق أكثر ومنح دلالةٍ أخص لمفهوم الدولة من وجهة مثالية فحينها سيتجه المراد حتماً لصورتها الطبيعية المختزلة في صفة العدالة التي هي أساس الحكم وضمان استمرار الملك والسلطة، ومقتضاها (أي العدالة) المساواة في كفتي الحقوق والواجبات التي بهما يستقيم ميزان الحاكمية في سائر المجتمعات، وإلا اختلَّ الميزان وتلاشى وجود الدولة، واندثرت بالتالي معها مهام وظائفها التي تمثّل القيم العليا لاستتباب الأمن والاستقرار والصحة والسكينة العامة، وتلك المعادلة العميقة – والخاصة – هي ما نفتقده اليوم في بلادنا المكلومة.

في يمننا الحبيب انقسم كلُّ شي بِدءاً بجغرافيةِ الأرض مرورًا برضا الناس عن حاكميهم وانتهاءً بالسلطة القائمة والنظام السياسي الممزق كل ممزق بين فئاتٍ سلطويةٍ متناحرةٍ منذُ بضعِ سنينَ خَلَت، وذلك كفيلٌ وحده بنزعِ دَسم الدولة؛ لِتصيرَ خُلُوًّا من تلك الرمزية، فضلاً عن غياب عدالة ميزان الحكم، ففي حين أُهدِرت حقوق المواطنين، غُيِّبت عنهم مقومات العيش الكريم في حدودها العليا والوسطى، فضلاً عن حدها الأدنى المتجسد بحق الراتب الذي تم حجبُ صرفهِ في (صنعاء) إلا عن فئة محدودة ضيقة، في حين يصرف في (عدن) بانتقاصٍ لقيمته العادلة مقارنةً بما آلَت إليه أوضاع قاطنيها المأساوية في ظل الغلاء الفاحش والتدهور الاقتصادي المتسارع الذي أفقد العملة تسعة أعشار قوتها الشرائية.

وفي مقابل ذلك الحجب (الشمالي) والانتقاص (الجنوبي) تزداد كفة الالتزامات وأعباؤها المُثقِلة لكواهل المواطنين الذين باتوا في ضنكٍ من العيش يسوِّر حياتهم العامة والخاصة، يضاف لذلك غلوٌ في استحواذ فئة السلطة الحاكمة وأتباعها المقربين على كل مقدرات البلاد من دُخُولٍ وإيراداتٍ وجباياتٍ أثروا معها ثراءً فاحشًا واستمتعوا بما حُرم منه غالبية الشعب المغلوب على أمره في معادلةٍ تنسفُ مبدأ العدالة رمَّانة ميزان الحكم والعمود الفقري لبقاءِ الدولة.

لا تأْبهُ معظم الأطرافُ المتصارعةُ في اليمن والماسكة زمام الحكم في أشطاره الممزقة، بحقوق اليمنيين المسلوبة منهم، غايةَ ما تهتمُّ له هو البقاء في سدة الحكم ولو على حساب معاناة وآلام الشعب اليمني، ذلك الشعب الذي أضحى بائسًا يائسًا من المطالبة بحقوقه المهدورة دون وازعٍ من دين أو رادعٍ من ضمير، ولو كنا أمام دولة حقيقية لكانت حقوق مواطنيها هي أولى أولوياتها، ولكنّ اللامبالاة المفرطة هي السمة الطاغية في المشهد، وهي صفةُ من لا يستشعر أنه قائم على أمور شعبٍ يعيش في كنف الدولة، وهو كسلطة حاكمة (مسئولة) يخالفهم في ذلك الاستشعار، فيجلب غطاء الدولة عند استجلاب الواجبات منهم وفرض الالتزامات عليهم، ويرفعه عند حُلُول أجل استحقاقاتهم والصَّدح بمطالباتهم وحرياتهم، وتلك أعظمُ آفاتنا التي ابتلينا بها.

ختاماً، نأمل عودةً جديدةً لليمن الحبيب، يمنِ الدولة والاستقرار ، يمنِ الرخاء والخير ، يمنِ الأمن والأمان، عودةً ليمنٍ تُعطى فيه حقوقُ المواطنين المسلوبة، عودةً ليمن المرتبات العادلة، عودةً ليمن المشاريع والخدمات التنموية، عودةً تندثرُ معها مآسي اليمن التي أضنَكَت حياةَ اليمنيين عقب مساسهم بقدسية الدولة، وجرَّعتهم ويلات الشقاء طيلةَ عقدٍ من الزمانِ مرت سِنينُهُ بِطَاءً ثِقالاً، وهي عقوبةٌ لا زالت عجلتها دائرةً حتى اللحظة، ولئن توقَّفت فستظل -للأسف – آثارُها ممتدةً ربما لعقودٍ طِوال، وتلك أثمانٌ باهضةٌ تشارك في دفعها الأجيالُ القادمة، لتعلّقِ أمرِها برمزيِّة الدولة التي ينبغي تجنب المساسِ بها وعدم الانتقاص منها، والحفاظ عليها كاملةَ الدَّسَم.
..

تعليقات