مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم فنزلوا قريبا منه ، فقام إليه رجل يقال له أبو الخيبري وجعل يركض برجله قبره ، ويقول اقرنا ، فقال له بعضهم : ويلك ! ما يدعوك أن تعرض ترجل قد مات ؟ قال : إن طيئا تزعم أنه ما نزل أحد إلا أقراه، ثم أجنهم الليل فناموا . فقام أبو الخيبري فزعا ، وهو يقول : واراحلتاه ! فقالوا له : ما لك ؟ قال : أتاني حاتم في النوم ، وعقر ناقتي بالسيف ؛ وأنا أنظر إليها (…).
قاموا وإذا ناقة الرجل تكوس عقيرا ، فانتحر وها وباتوا يأكلون ، وقالوا : قرانا حاتم حيا وميتا ! وأردفوا صاحبهم وانطلقوا سائرين ، وإذا برجل راكب بعيرا وهو يقود آخر قد لحقه وهو يقول :أيكم أبو الخيبري قال الرجل : أنا ! قال : فخذ هذا البعير ؛ أنا عدي بن حاتم ؛ جاءني حاتم في النوم وزعم أنه قراكم بناقتك وأمرني أن أحملك ؛ فشأنك والبعير ودفعه إليهم وانصرف ”
يُكنى بكلمة (زعم) عن الكذب؛ فقد أثر عن شريح القاضي قوله ” زعموا كنية الكذب” وأوردها ابن منظور في لسان العرب تحت مادة (زعم). يعني هذا أن الفعلين (زعم وكذب) يفضي أحدهما إلى الآخر، ويبعث كل منهما الحركة في الأفكار التي يشغلها الآخر. يمنح كل منهما الحياة إلى الآخر، ويقول أحدهما ما كان منطوقا به بصمت في الآخر.
الزعم كنية و الكنية ولادة جديدة ودفن لشخصية قديمة. كل قول يرد فيه الزعم يندمج في الكذب أو ينتهي إليه. الكذب جسد في انتظار الحياة ونسمة الحياة في متناول الزعم. للشك و الظن نصيب في الزعم، فالعرب إذا شكت في أمر قالت (زعم فلان) وإذا تحدثوا عن أمر أو حديث لا يوثق بهما ولا يجدون لهما سندا قالوا (زعم ). تتأكد هذه الصلة بين (زعم) و(كذب) في أن الزعم ورد في القرآن، في كل موضع ذم القائلون به كما يورد الراغب الأصفهاني في معجم مفردات القرآن. فالزعم قول مظنة للكذب .
لكن أن الكذبة (الزاعمين) هم الذين يستطيعون ابتكار الحكايات. ولأن الناس يميلون إلى تصديق كذاب / زاعم مشوق ومسل أكثر من ميلهم إلى الاستماع إلى رجل صادق. هناك علاقة بين الحكاية وما يترتب عليها من أوهام وبين النوم وما يصاحبه من أحلام. فأوهام الحكاية تشبه أحلام النوم ذلك أن الذي ” يصغي إلى حكاية يستسلم كما يفعل الحالم للأوهام فيصدق ما لا يجوز تصديقه وينغمس في بحر من الصور الكاذبة” (كيليطو).
اعتقد أبو الخيبري أن قبر حاتم شرك منصوب لقبيلة طيء كي يبخلهم و يبخل حاتما معهم. غير أن قبر حاتم تحول إلى طُعم ابتلعه أبو الخيبري، فقد دخل إلى القبر/ الشرك “وجعل يركض برجله قبر حاتم “. وركض أبي الخيبري على قبر حاتم إهانة لحاتم و عدم اعتراف بكرمه. دوس الحكايات التي هي تاريخ كرمه و تبخيسها بوضعها تحت القدم. قتل لتلك الحكايات .
ركض أبي الخيبري على قبر حاتم محاولة الإنشاء حكاية تمحو كل حكايات كرم حاتم . لكن (ركض) وإن كانت تعني( أسرع وضرب) إلا أن لها علاقة بالشرك. فالمعاجم العربية تخبرنا عن ارتكاض العصفور إذا دخل الشبكة. وهكذا فالشبكة هي قبر حاتم والعصفور هو أبو الخيبري. والشبكة لا تختلف من حيث شكلها، بنيتها، وظيفتها عن الحكاية. لكل منهما عقد وحبكة ونسج والوظيفة هي التمويه؛ أي الإشارة بظاهر مغر وفاتن إلى أمر زائف يخفي أمر آخر هو كنه الشبكة / الحكاية .إنه اعتقال العصفور / القارىء.
لا بد للشبكة وللحكاية من طعم. وطعم حكايتنا هو أبو الخيبري نفسه فلو نظرنا إليه من حيث هو حافز الحكاية أعني يكذب كرم حاتم، يختبره، يهينه، أمكننا القول إنه كالطعم في الشبكة. لكي تنشأ الحكاية أنشأت أبا الخيبري كأنه يعمل ضد حكايات كرم حاتم. لكنه يؤدي دورا ملتبسا، يمحو في البداية كل تاريخ كرم حاتم، كي يثبته في النهاية.
نحن نعرف أن كرم حاتم أن الليل هو الموعد المفضل لكرم لحاتم . وبالعودة إلى القبر/ الشبكة فالليل يعطل البصر ولا يجعله يعمل بطاقته القصوى. الليل كالشبكة /الحكاية التي تعطل ما تريد من بصرك ألا تراه وتختار و تفرض عليك ما تراه (كيليطو) . يوجد إذن شبكة أخرى اطمأن لها أبو الخيبري فنام، وأن ينام يعني أنه نسي كل شيء كالميت.
يوجد علاقة متينة بين النوم والموت فالموت نوم ثقيل كما أن النوم موت خفيف كما يقول الأصفهاني في معجمه عن مفردات القرآن. النوم أن يتوفى الله النفس من غير موت والموت أن يتوفى الله النفس من غير نوم . لا يوجد حدود بين الموت والنوم والفرق بينهما في يكمن في الدرجة لا في النوع. إذا كان ذلك كذلك فنوم أبي الخيبري يعني أنه مات موتا خفيفا، وموت حاتم يعني أنه نام نوما ثقيلا. ومن ثم لا أحد يدري أين حدود كل منهما، موت حاتم متربص على تخوم نوم أبي الخيبري، ونوم أبي الخيبري قابع على حدود موت حاتم ، إنهما في صيغة وجودية واحدة الأمر الذي يجعل وسيلة الاتصال بينهما ممكنة. ووسيلة الاتصال بينهما هي الحلم فعندما نام أبو الخيبري حلم بحاتم. ثم استيقظ فزعا الأمر الذي أثار انتباه مرافقيه .
جزء من مقاربة في كتاب ضحايا التأويل