سيعيش القارئ مع اثني عشر فصلًا كل فصل مثخن بعدد من العناوين والأوجاع، في البدء قد يعتقد أنه أمام مادة تاريخية بحتة، ليجد نفسه أمام اسقاط وجداني متنوع، ولغة غير مرتبكة توحي بمشاعر جياشة وعبرات مخنوقة وبوح مكنون منذ عقود، الكتاب بالتأكيد إضافة للمشهد ومحاولة للخروج بأفكار ومعلومات وتساؤلات جديدة ومقاربات مليئة بالحماس والشغف لذلك الزمن وضحاياه، من خلال ذاكرة وارشيف شخصيين.
التاريخ (افتراضًا): “جملةُ معقدة من الحوادث وسلسلة من الوقائع يصنعها تضارب المصالح والاهواء والمطامع وتنسجها المصادفة”، بهذا المدخل يحاول الكاتب الذهاب عميقًا بالقارئ وجعله مستيقظًا لما سيأتي من صراعات داخل الكتاب، صراعات الهوى والعواطف والمداد المسكوب لدى المؤلف نفسه.
سيكون القارئ على موعد مع كثير من السياقات والشواهد والمعلومة القلقة والأحداث التي تحتاج لجهوزية عالية مع بعض التحفظات والاستقراء ومقدمة جميلة و(نظرة أولى) مدهشة، قبل الولوج في أعماق الأيام والتواريخ المضطربة.
***
قرأت الكتاب (زمن إبراهيم) الناشر (دار عناوين بوكس) القاهرة 2024، لوحة الغلاف الشاعر الكبير والمبدع (يحيى الحمادي)، سطرًا سطرا، وأعدت القراءة فيه مرة ثانية، كنت على موعد مع عدد من الأخطاء الإملائية المطبعية بحكم عملي في التحرير الصحفي وخطأ مطبعي في كتابة تاريخ نكسة حزيران الصفحة (229) حيث كتب (76) بدلا من (67) إن لم يخونني الفهم.
الأمر الأهم الذي لفت نظري ليست مادة الكتاب وحسب، ولكن ما سيفتحه أمام القارئ من تساؤلات مشروعة ومتنوعة، خاصة وأن الكتاب جاء في فترة الثورة الرقمية وتعدد التطبيقات وهناك جيل جديد لديه ما يكفي من المواضيع التي سينشغل بها خاصة بعد أحداث (الربيع العربي) وتداعياته، والتي أحدثت تحولا عميقا في الذهنية العربية وصلت حد مزاحمة الأفكار والتجسد حتى على شكل كوابيس أثناء النوم خاصة مع الشخصية اليمنية، والجدل المستمر بين مؤيد ومعارض. إضافة إلى ما سيدلي به من عاصروا ذلك الجيل أو الذي يليه وخاصة من كانوا على صلة بالناصرية التي لا أحد يعرف تحديدا كيف كانت علاقة إبراهيم بها؟ وأين سيتفقون وأين سيختلفون مع الكاتب؟!.
إضافة إلى حساسية الحدث أو الشخوص الذين يتكئ عليهم الكاتب في مادته، ومدى الأثر الذي سيتركه حول زمن؛ ربما على قصره، ما يزال يشكل حالة تاريخية وسياسية استثنائية بكل ما فيها من تحولات، إلا أن الأسوأ فيها عملية الاغتيال بلا شك، وما صاحبها من تداعيات وإن كان الرد عليها قد جاء سريعا من قبل الرفاق، وتم تنفيذ عملية الثأر بشنطة متفجرة حملها ساعي بريد وحمل معها شهادة وفاته.
***
يظهر الكاتب بمثابة الروائي متقمصًا صورة البطل، فهو رغم ما ساق من عواطف وأوصاف في حق الحمدي يبدو عليها المبالغة، إلا أنه في الوقت نفسه ودون تعمق، يشير إلى الأخطاء التي كانت عائقًا في استمرار ذلك الزمن، والتي شكلت نقاطا سلبية، جعلت الشهيد الحمدي يسلم للأقدار بدلا من التدابير، وهنا نقطة مهمة كيف لرئيس بكل هذه الأوصاف والكاريزما، صعد بـ (انقلاب أبيض)، كل ما يحيط به ملغوم، ولديه خصوم صنعهم بنفسه أيا كان دورهم أو عهدهم، لهم ثقل ووزن، ناهيك عن ما يدور من صراع دولي واقليمي، وهو يمتلك من القوة والأسباب التي تجعله حريص كل الحرص بعدم التساهل، لأن أي مشروع من هذا القبيل يحتاج لضمانات تحمي القائد، وهو الذي يعي تشابك القبيلة وتقاطع المصالح، كما أنه وهو الأهم كان دائم الشكوى من الجارة السعودية، فهل اعتقد أن الملائكة سوف تحرسه وآمن بذلك إيمانًا مطلق.
ولأن اللغز الأبدي من وجهة نظري في هذا الخضم دائمًا وأبدًا، وهو ما يشغل الرأي وفضول أصحابه، والخصوم والمعارضين والباحثين وما أكثرهم، هو الرئيس الراحل الشهيد علي عبدالله صالح وموقعه من مقتل الحمدي، فكل باحث يضع الرجل في المشهد الذي يناسبه، حيث لا رواية ثابتة حتى اليوم، ليبق الأمر مبهما والشهية مفتوحة وكأننا أمام لعبة شطرنج.
تبدو فصول الكتاب متباعدة لدى القارئ، فربما لن تجد ما يدور في ذهنك على مدار أربعة فصول وقد تعتقد في لحظة ما أنه لا يوجد ما يشبع الفضول سوى لغة جميلة وسيرة لها خصوصيتها، لكن الكاتب يشدك إلى مواضيع مختلفة وعميقة تباعا واضعا بصمته مبتعدا عن التكرار إلا في بعض الأحداث.
يخوض الكاتب معركة مع نفسه، وحبه لإبراهيم الجار والصديق مع فارق السن، وصاحب الكاريزما التي طُبعت في أذهان الكثير خاصة من الضالعين في حب الناصرية وعبد الناصر، تلك الكاريزما التي سحقتها في طريق المجد بعض المبالغات والتخندق الحزبي، كنوع من التزكية التي تأتي على طريقة المريدين مع بعض الشخصيات التاريخية، وهذا لا يمنع مطلقًا أن إبراهيم، قد وقع في قلوب الكثير موقع المحبوب حد الجنون بما فيهم صاحب هذا الكتاب، مع كل الهفوات والأخطاء التي تعيش مع أي شخصية عبر التاريخ.
وهنا سؤال يشغل بالي هل كان يعتقد صاحب الكتاب أنه سيكون بوضع ومكانة مختلفة لو أن إبراهيم استمر لعقد آخر، على الأقل بحكم العلاقة الأسرية والتعليم الجيد والطموح الذي كان يسعى إليه العنسي أنور؟ أم أنه كان سيتغير الأمر على المستوى الشخصي وعلى مستوى النظام كما فعل هو وأخيه (عبدالله) مع بعض الرفاق والمقربين؟ وهل كان سيظل إبراهيم يحارب من أجل (مدينة فاضلة) وسط الأمواج المتلاطمة التي أصابت أعتى الأنظمة وعصفت برؤوس كانت تعتقد أنها بمنأى.
***
في الحقيقة وجدتني غير مستقر على حال، هل أعرض الكتاب كما هي عادة عرض الكتب؟ أم أدلو بدلوي من واقع قراتي واطلاعي على كثير من الأحداث والتحليلات وافراغ الفضول الذي شغل بالي.
هناك نقطة مهمة أيا كانت التباينات مع الكاتب ويجب أن نتفق عليها أن مقتل الحمدي وأخيه عبدالله بتلك الطريقة من قبل رفيقه أحمد الغشمي كانت في قمة السقوط، عكست أمرين سيئين: مسرح ومكان الجريمة وتوقيتها وبشاعة الصراع على السلطة، مع الاعتبار أن الترتيبات كانت على مستوى وتخطيط عاليين، خاصة مع وجود المرأتين الفرنسيتين (فيرونيك وفرنكا) اللتين أضافتا للعملية قبحًا أكبر.
أيضا مغادرة كثير من (البعثات الديبلوماسية والسفراء) العاصمة صنعاء على اعتبار أن هناك أمر مستجد وسيحدث، هذا جانب آخر لكنه خطير، باستثناء السفير السعودي الذي كان حاضرا مأدبة الغداء؛ كيف أنه لم يلفت أعلى شخصية داخل البلد، وهذه معلومة على المستوى الشخصي أقراها لأول مرة.
يدافع الكاتب عن نفسه متعمدا القطع على القارئ الدخول في أي تأويلات، وهو يشير إلى أن لغة الكتابة ليست نتاج رومانسية مريضة بل محاولة ارتقاء عقلاني، معتبرا أن اغتيال إبراهيم مؤامرة وتحريض قبلي صُمم بعناية، وفي ذات السياق يكشف أنه لا يكتب لينكأ الجراح بعد خمسة عقود بل الحديث في العمق عن زمنه، ومع ذلك نكأ جروحا كثيرة.
ربما من أهم الإشارات جاءت تباعًا داخل الكتاب وهي شهادة خطيرة حين ذهب الكاتب بنفسه إلى محافظ محافظة ذمار آنذاك (محمد حسن دماج) يطلب منه الذهاب إلى والد أنور العنسي للتخفيف عنه بحكم الصداقة والعلاقة بينهم ثم سأله كيف جرى ذلك ليقابله الرجل بكل برود وكأنه على علم بما سيحدث أو كان مدركا حسب المؤلف.
في الحقيقة استطاع الكاتب أن يكون خفيفا أما القارئ في بعض المواضع، لكنه يعمد إلى الاستفزاز من خلال طرح بعض الأفكار بشكل مبتور، أو دون تعمق، وكأنه يفتح باب الأسئلة أو يسأل ليفتح بابا للأجوبة، ومنها بعض الروايات التي يقول عنها لا يتفق معها تماما ولا يكذبها، وهكذا استمر الحال معتمدًا على علاقاته وشخصيته الصحفية والإعلامية وهو الاسم العلَامة (أنور العنسي – بي بي سي).