بيتُك الصغيرُ لا يستطيعُ أن يُشعِرَك بالدفء،
لا يستطيعُ أن يشعرَك بشيءٍ من السكينة،
أهلُك لا يستطيعون أن يشعروك بالقُرب،
لا يستطيعون أن يشعروك بذات المحبة،
وقد يكفيك إنسانٌ واحدٌ في هذا العالم
يُشعرُك بأن كل ما في الحياة ذاتُ جمالٍ،
كما بانقطاعِهِ عنك، ينقطع عنك الهواء،
وتنطفئ روحُك، خارج الوقت الموعود،
فقل له: شُكرًا لك أيها الجمالُ شُكرًا لك،
وضع علامةَ استفهامٍ كبيرةً أمام الواقع،
علامةَ استفهامٍ كبيرةً جدًّا وثقيلةً جدًّا،
لا تقدرُ على حملِها الإجاباتُ والمفاهيم..
في الواقع تُحاصرُك الذكرياتُ، من جهةٍ،
ويجثمُ الهولُ على قلبك من جهةٍ أخرى،
كما تتفحَّمُ الآمال التي نَمَت في أعماقك،
فلا يبقى في وسعك إلا مجاراةُ الوُجُوم،
والركضُ وراء عقرب الوقت الهاربِ منك،
تركضُ بكل ما أوتيت من أشواقٍ وحنين،
مُثقلاً بالماضي البغيض، والحاضرِ البشع..
دموعُك مصابيحُك التي تهتدي بها دائمًا،
وصمتُك طائرُك الذي تُهاجرُ على جناحيه،
وحزنُك مخدَّتُك التي تضعُ رأسَك بين يديها،
فما الذي ستفعلُهُ الأقمارُ الصناعيةُ لجهاتك؟!
وما الذي ستفعلُهُ المركباتُ الفضائيةُ لأسفارِك؟!
وما الذي ستفعلُهُ قريتُك الصغيرةُ لقلبِك الكبير؟!
لا الأقمارُ ستُضِيء ولا المركباتُ الفضائيةُ ستحملُك،
ولا قريتُك ستُلوِّحُ لك بوردةٍ أو بسُنبُلةٍ أو حتى بخردلةٍ،
أنت هنا جالسٌ في الوحشة، تقترفُ الحنينَ/ هذا الخائن،
تُمارسُ طُقُوسَك الروحيةَ بسرِّيِّةٍ تامَّةٍ، كما لو أنها خطايا،
تكتبُ الشعرَ بطريقتِك الخاصةِ، بحكمةٍ وجُنُونٍ مفرِطٍ،
أنت هنا جالسٌ على حافةِ الحياةِ، تُرقِّع المُوسِيقى،
وتُغنِّي للكوارثِ الطبيعيةِ والأهوالِ المُتناسلةِ،
تردمُ الاحتضاراتِ القديمةَ بأعيادِ الحُرِّيَّةِ،
وتسبَحُ في أعماقِ الهزائمِ والخسارات،
مُستحضِرًا طفولتَك ويُتمَكَ المُوحِش،
ومُستحضِرًا عُزلتَك الطويلةَ ومنفاك..
لم يعُد ما يُغريكَ للبقاءِ دقيقةً واحدة،
لم يعُد ما يُغريكَ لتُصَارِعَ من أجل أن تعيش،
فلا تَلُم قريبًا ولا تَلُم بعيدًا، في عصر الانحطاط،
فأشرسُ المعارك التي خُضتها من أجلهم، تسخرُ منكَ،
وكل ما حولك مُضحِكٌ ومُبكٍ للغايةِ، ولا غايةَ لما تراه،
هذا الحانوتُ الصغيرُ، الذي أمامك، اسمُهُ الوطنُ العربيُّ،
هذه الخطوطُ السوداءُ التي على جُدرانِهِ، اسمُهَا الثورات،
هذا السقفُ الترابيُّ الذي يتساقطُ، اسمُهُ النظامُ والقانون،
لا تكترث لجبروت الخُذلان وفرعنةِ القهر الذي يحيطُ بك
بوسعك وأنت جالسٌ في الدخانِ أن تضعَ ساقًا على ساقٍ
لا أقلُّ ولا أكثرُ من مُجاراةِ هذه الحرائقِ والتماهي معها،
فالخروجُ عن العذاباتِ المُوكلةِ بك، ليس من حَقِّك،
والسؤالُ عن أسباب تعذيبك هذا، ليس من حَقِّك،
والبكاءُ بصمتٍ أو بصوتٍ عالٍ، ليس من حَقِّك،
والحنينُ إلى الزمنِ الجميلِ، ليس من حَقِّك،
والتفكيرُ بطريقةٍ للخلاصِ، ليس من حَقِّك،
فقط من حَقِّكَ أن تُطِلَّ سريعًا من الظلام؛
لترفعَ -في وجهِ العالمِ- إصبعَك الوُسطَى.
لا وجهَ للآتي مَلِيحُ
وجهاتُنا ليلٌ وريحُ
والمهرجانُ
لكُلِّ أحلامِ البرايا يستبِيحُ
وخُطى الحنينِ كسيحةٌ
ودليلُهَا الشوقُ الكسِيحُ
والوقتُ مقصَلَةُ الوُجُودِ
وكُلُّ موجُودٍ ذبيحُ
والهولُ نفسُ الهولِ،
ليسَ بوجهِهِ عنَّا يَشِيحُ
“جهلٌ وفقرٌ مُدقِعٌ ومخافَةٌ”
ودمٌ يَسِيحُ
نفسُ الحِكايةِ.. غابَةٌ
ولكُلِّ طاغِيةٍ فَحِيحُ
بملامحِ الماضي البغيضِ
أطلَّ حاضِرُنا القبيحُ
مُستنقعاتٌ كُلُّها الأوطانُ،
والمنفى فَسِيحُ
ما يفعلُ الآنَ الأسِيرُ
أوِ الشَهِيدُ أو الجَرِيحُ!!
ينسى دمَ الذِّكرَى،
وللنسيانِ يتَّسِعُ الضَّرِيحُ
لا الصبرُ أفصحَ عن مواجِعِنا
ولا الوجعُ الفَصِيحُ
بجميعِ ألسِنَةِ اللُّغَاتِ:
هُنَا الفصِيحُ لِمَن يَصِيحُ؟!
قُلنَا بِكُلِّ صَرَاحَةٍ
لو ينفعُ القولُ الصَّرِيحُ:
هَاتوا لنا الموتَ الأخِيرَ،
مِنَ الأخِيرِ، بِنَا أطِيحُوا
واقضوا علينا نَستَرِح
مِنكُم، ومِنَّا تَستَرِيحُوا