في العصر الإسلامي الأول ظهر ما يسمى “علم الكلام” الذي يستخدم الجدل العقلي -إضافة إلى النصّ السمعي- للبرهنة على وجود الله والبحث في ذاته وصفاته وأفعاله، وإثبات أو نفي مسؤولية الإنسان عن أفعاله.
المعتزلة أقدم وأشهر فرق علم الكلام، قالوا بوحدة ذات الله وصفاته والمنزلة بين المنزلتين وأن القرآن مخلوق.
تم نعتهم أحياناً بـ “القدرية” -نُفاة القَدَر- لأنهم تبنوا وجهة نظر معبد الجهني وغيلان الدمشقي التي ترفض نُسبة أفعال الإنسان إلى القدَر، ومن ثم فهو مسؤول عن أفعاله جميلها وقبيحها، لأنه هو خالق أفعاله.
في مقابل هؤلاء، هناك تيار “الجبرية”، وأشهر ممثليه جهم بن صفوان -وهو من الموالي الفُرس كما إن مؤسس المعتزلة واصل بن عطاء من الموالي كذلك- وتُنسب إليه الجهمية.
قالت الجهمية أن الله خالق الأفعال، وأن الإنسان ليس حراً في ما يفعل وإنما هو خاضع للضرورة ولا يملك الانعتاق من قبضتها، وبالنتيجة، فمسؤولية الانسان عن أعماله لاغية طالما أنه مُكره، والحكم عليها متروك لله إن شاء يغفر وإن شاء يعاقب.
ثم جاءت الاشعرية كـ حل وسط بين “القدرية/ المعتزلة” و”المجبرة”، إذ وقفت في المنتصف بين الجبر والاختيار، وعنوان مقالتها “الكسب”؛
وملخصها أن الانسان قادر “قُدرة مُحدثة” على أفعاله، لكنه لم يخلق أفعاله كما قالت المعتزلة، بل إن الله هو من خلقها ثم أودع في الانسان القدرة على فعلها إذا أراد، وبذلك يكسب الانسان هذا الفعل أي يتحمُّل نتيجته ويكون مسؤولاً عنه، فالانسان يريد والله يفعل، وبذلك تقع مسؤولية ذلك الفعل عليه، فيعاقب أو يكافأ على إرادته.
فـ الكسب عند أبو الحسن الأشعري هو ما وقع بقوّة مُحدثة، لأن الفاعل القديم هو الله وهو خالق الأفعال.
مقالة الأشعري في هذه المسألة تمثل عقيدة الشطر الأكبر من أهل السنة، فيما يعتنق الشطر الآخر مقالة أهل الحديث.
ما يهمنا الآن هو التأثير المتوقَّع لكل عقيدة من هذه العقائد على الصعيد العملي، في الأخلاق والاجتماع والسياسة.
من يقول أن الأفعال والحوادث كلها مقدرة من الله ولا مشيئة للإنسان في الفعل أو الترك، يجنح في حياته إلى التسليم الذليل بما هو واقع من مراتب وأوزان، وقوة وضعف، وأحوال وأدوار.
ومن يقول، على العكس، أن الإنسان يملك أن يختار الفعل وعدم الفعل، وأنه يُحسن في حين أنه يستطيع أن يسيء، ويسيء في حين أنه يستطيع أن يُحسن، فإنه سيجنح في حياته إلى عدم القنوع بما يجده واقعاً ماثلاً من قيود وحدود ومراتب وحوادث وأحوال وأدوار.
ومن يجمع بين القولين، الجبر المطلق والاختيار المطلق، ويؤلف منهما طريقاً ثالثاً يكون فيه الإنسان مسيَّراً إلى حد ومخيَّراً إلى حد، وهذا اعتقاد غالبية المسلمين، فإنه سيسلك في الحياة بمقتضى هذا الاعتقاد، فيقدِّر مواضع الاختيار ويميزها عن مواضع الجبر، يسلِّم حيناً ما وسعه التسليم ويناضل حيناً ما وسعه النضال.
هذا ما هو متوقع.
لكن هل الأمور في الواقع تسير على هذا النحو؟
لا نظن ذلك.
لا وجود لدليل تاريخي متواتر على أن المجبِّر في العقيدة مجبِّر حتماً في الموقف السياسي والاجتماعي، أو أن المعتقِد بالاختيار في علم الكلام ينهج حتماً في السياسة وفي الأخلاق العامة منهج الحرية ولين الجانب!
لننظر مثلاً إلى المعتزلة أهل عقيدة الاختيار، ونسأل كيف كانوا في السياسة عندما صاروا حزباً حاكماً في زمن المأمون والمعتصم والواثق؟
هل كان سلوكهم مطابقاً لعقيدة الاختيار والحرية أم مطابق لعقيدة الجبر؟
بمعنى هل كان المأمون -بعقيدته الاعتزالية- يجسد في السياسة والحكم مبادىء الحرية والتسامح أكثر مما كان عليه معاوية مثلاً بعقيدته الجبرية المزعومة؟
لا على الإطلاق.
سياسة معاوية أقل جبرية من سياسة المأمون وكافة خلفاء بني العباس.
المفكر والكاتب والمؤرخ العربي في عصرنا، إذ يتحدث عن “جبرية بني أمية”، فإنه يوهم القارىء كما لو أن غير بني أمية ممن جاء بعدهم كانوا خلاف ذلك، لا في العقيدة فقط بل وفي السياسة!
تجارب ونصوص الأحزاب والفرق المعارضة لبني أمية ليست مثال على الحرية والاختيار.
فليس هناك جبرية سياسية أعظم من تلك التي تنطوي عليها العقيدة الشيعية التي تقول أن الإمامة مكتوبة من الله وموصى بها في علي وذريته دوناً عن باقي الناس!
لقد جرى الربط بين مذهب الجبر الذي يقول أن الإنسان ليس له اختيار ولا إرادة في ما يفعل، وبين الموقف الذي يشجع في السياسة على الخضوع والطاعة غير المشروطة لمن يسمون بـ سلاطين الجور.
وقيل -ولا نستطيع التأكد من صحة ما قيل- أن معاوية وبني أمية استفادوا من نشر عقيدتي الجبر والارجاء ونقلوها إلى المجال السياسي لتبرير حكمهم وقمع الخارجين عليهم بحجة أن في الخروج عصيان لمشيئة الله.
ولعل متكلمي المعتزلة أول من تولى هذا الربط الدعائي في أواخر الدولة الأموية.
ثم أشيع في زمن الدولة العباسية.
فهذا الجاحظ أحد شيوخ الاعتزال، يقول في رسالة “النابتة” عن العام الذي انتقلت فيه الخلافة لمعاوية: “وما كان عام جماعةٍ، بل كان عام فُرْقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحَّلت فيه الإمامة مُلكاً كسرويّاً، والخلافة غصْباً وقيصريّاً، ولم يَعْد ذلك أجمع الضَّلال والفسق”.
واستُعيد الربط بين الأمويين وعقيدة الجبر في العصر الحديث على يد كتاب ونقاد عرب -أحمد أمين وطه حسين وزكي نجيب محمود والجابري- ومستشرقين.
وهو ربط آيديولوجي لا علمي، يستوجب مراجعة وبحث وتدقيق.
علماً أن مسألة الجبر والاختيار ليست دينية فقط، فهي مدار انشغال الفلاسفة والمصلحين والمفكرين عبر كل العصور.
والجبرية أنواع ودرجات،
وقد يسميها البعض “حتمية”،
فإذا لم تكن جبرية لاهوتية فستكون جبرية طبيعية أو تاريخية أو جغرافية أو عرقية.
كل جبرية مُطلقة مرفوضة.
أرشد وأصح المقالات هي أن الإنسان حُر ومقيّد، يتأرجح في حياته بين الضرورة والاختيار،
له نصيب من الحرية تزيد أو تنقص، ونصيب من الإكراه والقسر.
تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
Next Post
تعليقات