منبر حر لكل اليمنيين

بـين سِبتمبـرَي المُهـاجرينَ والأنصَـار تبـايـن الأيديولوجية واتسَـاع الصِّراع

د. إبراهيم الأهدل

78

د. إبراهيم الأهدل

غالبـًا مـا يرتبطُ تـقديرُ الشُّخُوص وتبجيلُهـم بعظـائِـم الإنجـازاتِ والتضحيـاتِ التي قدَّموهـا لصالح مجتمعَـاتهم، كما يرتـبطُ تـعظيـمُ الـزمـنِ وتقديسُ رمزِيَّته بالأحداثِ المفصَليَّة والتاريخيَّة الواقعةِ فيه، وبخاصـةٍ: تلك المؤثرة في أحوال الشُّعوبِ والأوطان.

ولـذا يَـحتلُّ شهـر سِبْتَمْبَر المجيـد ، مكانـةً عظيمةً في قلوبِ الـيمنيين وذاكرتِهم السّياسِية، كيف لا، وفيـه يـومُ الـسَّادسِ والـعشرين، الـيومُ الخـالدُ لقيـام ثـورة ١٩٦٢م، يـومُ ميـلادِ النظـامِ الجمهـوري فـي اليمـن، وانـتقـالِ السُّلطـة مـن حُـكمِ الإمـامة والـفـرد إلـى حُـكمِ الديمقراطية والـشّعب، وِفقَ مبـدأ الـتداولِ السِّلمي للسُّلطة، والأهـدافِ السِّبتَمبريَّة السِّتة.

للأسَـف، بـعد مُضي أكـثر مـن نصفِ قـرنٍ منَ الزمـانِ، دارت معهـا عجلـةُ الأحـداث وهَـاجَت فيها رياح التغيير، وبـالأخص عقبَ احتجاجاتِ الربيع العربي، وغيرهـا من الـعوامل السِّيَاسِية والاجتماعية الأخرى، وجَد معهـا أغلبُ قيـاداتِ ومُؤيدي ثورة (٢٦ سبتمبر) أنفسَهم مهاجـرين في عَـواصِم بـعض البلـدانِ الـعربـيـة، وذلك عقبَ اللحظة المِفصليَّة التي تربَّعت فيها ما تُعرف بحركةُ أنصـارِ اللَّه (في ٢١ سبتمبرِ ٢٠١٤) على كرسي الحكم في اليمـن، وتدرَّجت في تملُّكها السَّلطة، ابتـداءً بالشّراكة مـع الـقوى الوطنيـة الفَـاعلة وانتهـاءً بانفرادهـم كسُلطة أمـرٍ واقـع – كشَفَت بـعد أنْ استقـرَّ الأمـرُ لهـا عـن نظامهـا الخـاص لإدارة شئـون الحكم، بآلية تتجسد في قَـالَبٍ جمهوري بنكهةٍ إمـامية، ولـو أمطنا اللثـام عن حقيقته أكثر لوجدنـا في كنههِ مُحاكـاةً لنظـامِ ولاية الفقيـه – فرضَتهـا قوَّتُهـا، أو بـالأصح: ضَعف السُّلطة الشرعية القائمة آنذاك.

إنّ تبـاينَ الأيديولوجيـة الفكرية والسياسية للأنصار عن باقي القوى الوطنية، وخصوصًا ما يتعلق بأيديولوجية السُّلطة وفلسفة إدارة شئون الحكم في الدولة- القائمة من وجهة نظرهم على حصرها في فئةٍ معينة ذات انتماء سلالي، وعدم جواز انتقالها لغيرهـا، وغير ذلك مما يناقض أبجدِيّـات النظامِ الجمهوري- عمِّقَ شُرخ الخلافات بينهم وبين تلك القُوى، ليتطورَ ويصلَ حَدِّ الاحترابِ والاقتتال. ولِيعقُبَهُ تدخَّل دولُ التحالف العربي لقصف اليمن في اعتداءٍ طال معظم مقومات البنية التحية، بحجة إعادة الشرعية المغتصبة من أنصار الله يومَها، ولم تعد حتى اللحظة رغم مضي عقدٍ من الزمن. وتلك كانت بواعث أحداث الهجرة الأولى لبعض القيادات الوطنية والسياسية إلى خارج اليمن.

لـقد زادت حِدّة الـصَّراع ضَراوةً مـع هيمنة الأنصـار على معظم مفـاصل الـدولة في الشَّمـال عَـقِبَ فشل (انتفـاضة ٢ ديسمبر ٢٠١٧) وخلو الساحة السياسية من أحد أقوى حوائط الصد لتلك الهيمنة في العاصمة صنعاء، ليعقبَ ذلك أحداثُ الـهجرة الثانيـة لكثيرٍ من قياداتِ الـمؤتمر الشعبي العـام. ثم مؤخـرًا بلغَ الصّراعُ أَشُـدَّهُ، وبرزت علامته من خلال إقصاءِ كيانِ مؤتمرِ صنعاء من الشراكة (الصورية) في مقاعد الحكومة المُسماة “بالتغيير والبناء”، ومـن مُعظم المناصِب الـعُليـا والدنيـا التي أضحَت تكتسي بلونٍ واحـدٍ، وتصطبغ بـأيديولوجيةٍ فـكريةٍ واحِـدة.

ومـا بـين مُـهاجري سبتمبرِ الـسَّادسِ والعشرين، وأنصار سبتمبرِ الـواحدِ والعشرين، تـمتـلئُ فضَـاءاتُ الـسَّمـاواتِ بـلافـتـاتٍ مـنَ الشِّعَـارات المختلفة، وتـتفجَّر قيعـانُ الأرض بسيلٍ مـن المناكفـات والصَّراعـات (الدامية). ومـن ركامَـات كـل ذلك وبقـايَـاه المتكدسة تُطـالِـعُنـا الحقيقـةُ الـمُرّة لِقصَّـةٍ ألـيمـةٍ، وهَـجُ حَدَثِـهـا الخافِـت ونـغَـمُ حَديثِهـا الحَـزيـن هو اليمنُ الحبيب، البلدُ الموجوع الـذي فَقَـدَ أَمْنَـهُ وأمَـانَـهُ، ورونقَـه وازدهَـارَهُ، إِثـر تداعيات تلك الصِراعـات، التي لا زالـت عجلتهُـا دائـرة في رُبـوع البـلاد من أقصَاه إلى أدنَـاه، صِراعَـاتٍ طَـالَ أمـدُهُـا أكثر من عقـدٍ منَ الزمَـان، حُـرمَ معها اليمنيون من الاستقرار في شتى جوانب حياتهم: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكن رغـم ذلك كله لا يـزالَ الأمَـل قائِـمـًا على قلب تلك الصفحة وطَي مـا فيهـا، إلا أنـه أملٌ يحتـاجُ إلى معجـزة إلـهيـة لتحقيقه، تَسبِقُهـا مِصدَاقيّـةُ شَـعبٍ يتصَدَّر – وبـجديةٍ – لـذلك.

العجيبُ أنّه في ظل ذلكَ الصَّراع السُّلطوي بـين سبتمبريي المُهـاجِرين والأنصَـار ، وفـي ظلِّ ازدواجِ نظام الحُكم القائم، المَحكوم في باطنهِ بنمَطِيَّة الإمامة، المُتوارِية تحتَ عَباءةِ الجمهورية وهيكلها، لم يحرّك الشّعب اليمني (بمضمونه الجمعي) ساكنـًا، إذ ظلّ في دكّـة المتفرجين، وإن تـمَّ استخدامه فُـرَادى، دونَ إرادةٍ خالصةٍ منه، في إبراز تأييده لذا أو ذاك.

لكن أولاً وأخيرًا -وتلك حقيقةٌ لا مناصَ منها- يبقى الـرَّهـان على واحِـدِيَّة الـشّعبِ وتحرُّكِـهُ الـمفصلي لِحَسْـمِ ذلك الـصِّرَاع النَّـاشِـب بين كـافة الفرقاء وإنهاء الازدواجية العبثية القائمة في البلاد، وإعـادة الأمـور المختلة إلى وضعهـا الصحيح، وإرجـاع دفَّـة الحُكم المنحرفـة إلى جـادّة الصَّواب وفقًا لرغبته وقناعته، وبما يعيد لليمن استقرارَه المـأمُول ويخلِّص اليمنيين من تَبعاتِ ذلك الصِّراع في إطار رؤيةٍ وطنيةٍ خالصةٍ يكون مناط القول الفصل فيها للإرادة الشعبية لا أحدٍ سواها، ويكون الشعب فيها هو السيِّد الحاكم، وغيره من فرقاء الهَوى والأهوَاء همُ المَحكومُون والمنصَاعُون لأمره، طوعاً أو كرهاً (بحكمة لُقمان أو عصَا موسى).

بعد الخذلان اللا مسبوق من كافة قيادات السلطات المتربعة على الأرض، يصحُّ القول أنّ الرِّهانَ اليومَ لم يعد قائمًا إلا على الشَّعب (والشعب وحده)، فهو القادر بمشيئة اللَّه على التحرر من فَـكّ أصفاد صمته وكسر أغلال عجزه، والانطلاق لـتغيير المعادلة في ميدان الواقع، وترجيح كفة ميزان الصالح العام المهدورة على ما سواها، واسترجاع رمزية الدولة وجمهورية الشعب ووحدته، وإنهـاء الـعبثيـة الـسَّاريـة في الـبـلاد، والتحرك لمعاقبة الخاطئين سَالِبي الوطن أمنَـه وأمانَـه، وسائمي أبنائه عذَابَات الشقاء وويلات المعاناة، ثم إرسَـاء مداميك الاستقـرار واستجلاب مـا فيه الـخير والعون للخروج من الصورة السَّوداوية القاتمة لواقعنا الذي طال تَوَهَانُنـا فيه إلى نقاء الصُّورة المُجسِّدةِ لطموحاتنا، وجمالها التي نأمل. ولكن بالطبع عندما يستيقظ من غفوته، أو… سُبَاته العميق.

والسُّؤال الذي يطرحُ نفسَه ويلوحُ في الأُفُق؟ متى يستيقظُ الشعب من غفوتهِ تلك ؟ ويَنبِـذ سيَاسة غضَّ الـطَّرف، ويعلن النهاية.. ! ويضع حدًّا لحالـة الضَّياعِ والتّيهِ التي استَطارَ شُـرُّهـا في اليمـن ، وبلـغَت قسَـاوةُ أوجـاعِهـا وحُرقـةُ آلامِها ذروتَهـا، حتى لامسَت نِياطَ كلّ قلبٍ في كلّ دار من كل حي في كل محافظات الـوطن. متى يستيفيقُ الشعبُ ويَستنكف وَضْعَ حاضِرهِ وواقعهِ، ويُعلِن حالةَ الاستِنفـارِ للخَلاصِ منـه، ويَستدعِي الـمارِدَ الـكامِنَ فيـه، كما استدعَـاهُ بجسارةٍ من قبلُ: في سِبتَمبرِ التَّاريخِ الخَالِد..!

تعليقات