(رحلتي إلى اليمن)
هذه كلمات قيلت بعد أيام من انطلاق ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ١٩٦٢م، وقائلها هو العالم والمؤرخ والمهندس الزراعي السوري (أحمد وصفي زكريا) الذي غادر اليمن (كما ذكرنا في المنشور السابق) بعد إقامةٍ استمرت ستة أشهر، قام خلالها بمهمته النبيلة التي أوكلها إليه بعض رجالات العرب المهتمين بالقضايا القومية العربية، وقد أدى تلك المهمة على أحسن وجه، متجاوزًا كل الصعوبات والعراقيل التي واجهته.. ورغم المدة القصيرة والمخالطة العابرة لليمن وأهلها، إلا أنه بقي منذ رحيله حتى آخر عمره يتابع ويكتب عن اليمن وأحوالها، سواء الزراعية، أو السياسية، أو التاريخية، وقد استطاع أن يمدّ جسرًا حميميًّا بينه وبينها، فكتب العديد من المقالات في الصحف والمجلات المصرية والسورية، وغيرها..
لقد مثّلت تلك المقالات والمحاضرات التي كتبها عن اليمن بوابةً معرفيةً للكثير من القراء والمفكرين العرب الذين لم يكونوا يعرفون شيئًا عن هذا البلد العربي الذي كان معزولًا في مغارة محاطة بسياج من الكهانة والتخلف والجمود؛ وما يُلفِت النظر في كتابات أحمد وصفي زكريا هو إلمامه بالتاريخ اليمني القديم والوسيط، وتشخيصه لأسباب تراجعه وانتكاسه، والذي يُرجعه في أكثر من موضع إلى النظام الإمامي الرجعي، وسَعيِه الحثيث لبقاء اليمن دولةً خارج العصر.
يقول في كتابه (رحلتي إلى اليمن):
(كنت أثناء تجوّلي واتصالي بمختلف طبقات اليمانيين، أسمع همسًا ولفظًا وشكاوى مُرّة من قسوة الإمام يحيي وجموده وتخلفه، وفوضى إدارته؛ هو وأبناؤه الذين وَلّاهُم ما لا يستحقون من الوزارات والإمارات، حتى صِرت أعتقد أن النفوس هناك مكتئبة، والخواطر مضطربة، وأن اليمن تتمخض عن ثورة سوف تُطيح بهذا الإمام الذي دام عهدُ مَلَكِيّتِهِ ثلاثين سنة، أحاط اليمنَ فيها بسور حديديّ أغلق به منافذ النور، وخنق الأنفاس، وجعل اليمن متأخرًا في كل شيء، ومحتاجًا إلى كل شيء، منعزلًا ومنكمشًا ومجهولًا من كل البشر؛ وقد صح ظني، وحدث بعد حين ما توقعته، وثار طلاب الإصلاح سنة ١٩٤٨م واغتالوا الإمام يحيى، ونصّبوا غيره.
لكنّ ابنَه أحمد -وقد كان جَبارًا بَطاشًـا أكثرَ من أبيه، ومقدوحَ الخصال والأفعال- أسرَعَ واستنفر القبائلَ المواليةَ له؛ وهؤلاء أتباعٌ لكل ناعق، ولا سيّما إذا أباح لهم مدينة صنعاء، فهَجَم هؤلاء على صنعاء، وقتلوا وسلبوا ونهبوا، وقلبوا تلك الثورة المرتجلة، واستلم أحمد منصبَ الإمامة والملكية، وقطع رؤوس الذين ثاروا عليه، وكان بينهم عدد من الشبان المتعلمين خارج اليمن، وبقي أربع عشرة سنة يسير على نهج أبيه السقيم، بل كان أشد سقمًا وتخلفًا وطيشًا…
ولمّا طفح كيلُه، جرت محاولتان لاغتياله، باءتا بالفشل، قطع فيها رؤوس أخوَين له، وظل يعيش في جَوٍّ من كراهية الشعب اليماني ومَقتِـه وتذمّره حتى مات في عامنا هذا غير مأسوف عليه، وبموته انفجر البركان المحتقن، وحِيل بين ابنِه ووليِّ عهدِه (محمد البدر) وبين ما يشتهيه من التربع على عرش الإمامة والملكية، مع علمه بأن عصرنا الحاضر هو (عصر الديمقراطيات) وهو (عصر الجمهوريات) وهو عصر (حكم الشعوب بالشعوب) لا بـ(الحكم الفردي، ودعاوى الحسب والنسب).
أجل يا سادتي: حُمّ القضاءُ على أئمة اليمن، بعد أن دام سلطانهم الروحي والزمني أحد عشر قرنًا، وطاح آخرُ عرش من عروش جبروتهم واستغلالهم منصب الإمامة وقداسته في استمتاعهم وملء خزائنهم في غير صالح الشعب اليماني المنكود الحظ، الذين كانوا نكبةً عليه، وأيّ نكبة· إن هذا الشعب العربي القحطاني النبيل كان في عهد أسلافه المَعينيين والسبئيين والحِميريين على قدر كبير من الحضارة والثقافة ورفاهية العيش ورقيّ الزراعة والتجارة حتى سَمّى الرومان بلاد اليمن (العربية السعيدة)، وشهد بذلك القرآن الكريم في سورة سبأ حين قال (لقد كان لسبأ في مسكنهم آيةٌ جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور). وناهيك بالآثار والأطلال والأعمدة والأسوار الموجودة في بعض مدن اليمن، كمأرب وصرواح ومعين وشبوة وبيحان البيضاء والسوداء وغيرها، وناهيك بالسدود العظيمة التي كانت تخزن مياه الأمطار المنحدرة من الجبال بين الأودية، وناهيك بالمزارع الزاهرة التي كانت تلك السدود تجري من تحتها الأنهار، وبالنقوش وكتابات الحرف المعروف بالمُسند، وهي كثيرة، كنت أصادفها خلال تجوالي في ربوع اليمن.
ولمّا جاء هؤلاء الأئمة في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وتحكموا في اليمن باسم الشرافة والإمامة وقداستها، أهملوا تلك الآثار والأعمال، ونَشروا دواعي الخمول والتأخر التي منها الحث على زراعة القات، ولم يُخَلّف واحدٌ منهم أيَّ أثرٍ محمود، عمرانيٍّ أو اقتصاديٍّ أو ثقافي، حتى أوصلوا اليمن إلى حالة يرثى لها، استحق معها اسم (العربية الشقية)، وجعلوا تاريخهم في اليمن الممتد منذ أحد عشر قرنًا سلسلةً من المخازي والمآسي.. ويا لَلأسف.
ولمّا بلغ السّيلُ الزبَى قام بعض قواد الجيش اليماني الذين شاءت الأقدار أن يتعلموا ويتدربوا -مِن قَبل- خارجَ اليمن في بلاد عربية أخرى، ويَروا النور ويَذوقوا طعم التحرر والتقدم، ويتتبعوا الانقلابات العسكرية التي جرت في دمشق والقاهرة وبغداد… قام هؤلاء القواد بثورة جبارة في ٢٦ أيلول الماضي، فاستطاعوا أن يزيحوا محمد البدر آخر أولئك الأئمة، وحَذِر أولئك القواد أن يُشابه محمد البدر أباه، أو جده المذكورَين، ويكون الفرعُ طبقَ الأصل، فدكّوا صياصي الظلم والاستبداد والرجعية التي كان اليمن يشكو منها ويئن، وأسسوا جمهوريةً عصريةَ التكوين، دعوها (الجمهورية العربية اليمنية) وأعلنوا أنهم سوف يوقِظون المجتمع اليماني من رقدته التي أطالها الأئمة، وأبقته في مؤخرة الشعوب العربية، بل شعوب العالم كلها، بسبب جور الأئمة وضغطهم وتخلفهم، وأنهم سوف يدفعون هذا المجتمع نحو الحركة والسير في ركب الحضارة الحديثة، واعترفَت حتى الآن (سبعٌ وعشرون دولةً بين عربية وأجنبية) بهذه الجمهورية الفتية، وستلحقها بقية الدول، إن عاجلًا أو آجلًا، وسيفوز اليمن بما قاله الشاعر أبو القاسم الشابي: (إذا الشعبُ يومًا أراد الحياةَ فلا بد أن يستجيب القـدر)
وقد كانت جمهوريتنا السورية في طليعة هؤلاء المعترفين، لوثوقها بأن الثورة اليمانية كانت على حق، ونتيجةَ احتقان وانفجار، وفي اليوم الثاني عشر من شهر تشرين الثاني الماضي ألقى وزير الإعلام السوري الحالي خطابًا في النادي العربي بدمشق، أكّد فيه موقفَ سورية الواضح من الثورة اليمانية فقال: إن حكومتنا وشعبنا وقفا بلا تردد إلى جانب الثورة اليمنية، لأننا نعتبرها رفضًا للتخلف وطموحًا مشروعًا إلى التحرر والسير في طريق التقدم الفعال، ثم قال: إننا لم نقف ولن نقف ضد الثورة، وضد التقدم، وضد إرادة الشعب اليماني في أن يكون سيدَ مصيره وحاكمَ أمره والمرجعَ الأولَ والأخيرَ لسيادته وعزته وكرامته.
**من صفحته في فيس بوك
الكتاب صادر عن دار الفكر بدمشق ١٩٨٦م
وهو من تقديم: أحمد غسان سبانو