تهلُّ علينا يوم غدٍ الثاني عشر من ربيع الأول من العام الهجري ١٤٤٦ ذكرى مولد رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهي مناسبة عظيمة تأبى النفوس المؤمنة معها والقلوب الممتلئة حبًا لنور سيد الأكوان إلا إحياء ذكراها بما يزيدنا تعلقاً بجناب حضرته والاستزادة من فيض محبته. والاحتفاء بتلك المناسبة الجليلة هو من التعظيم المحمود لخير مخلوق في الوجود، وهي شعيرةٌ نتقرب بها إلى الله، وما أجلها من شعيرةٍ نحتفي فيها بالمحبوب ليزداد معها تقوى القلوب.
في بلد الأرق قلوبًا والألين أفئدة، ترعرعنا ونشأ معظمنا في بيئةٍ كانت تُحيي كل المناسبات ذات الطابع الديني التي نستذكر معها مناقب تلك الذكرى ونستفيد من مآثرها وأحداثها بما يصقل قلوبنا وعقولنا إيماناً وعلماً، ونرتشف من منهل فيوضاتها ما يروي عطش ضعف إيماننا ويقوي عزائمنا، وتؤكد ربط الخلف بالسلف بحبلٍ معنوي ممدود أوَّله قرون الأولين وآخره بين أَكُفِّنا وأحضاننا كلما تمسكنا به نالنا قَبَسٌ من أنوار وتجليات تلك المناسبات وبركات أصحابها، فينغرس في قلوبنا تعظيم وتوقير لأسلافنا، وتتعطر أجواؤنا بروحانية تغمر جنبات المكان المضاءة بالنَّقـاء والصَّفاء قبل قناديل وأعمدة الكهرباء. لباسٌ جديدٌ لأطفالٍ ترتع وتلعب وتجلجل ضحكات فرحتهم، وصيام النهار وإحياء الليالي المباركات بالذكر وقراءة السِّيَر العَطِرات المتعلقة بتلك المناسبات.
مشاعر أريحية وأجواء إيمانية لا توصف كانت تتلبد بها الدنيا – ولا زالت – في ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم، فهي بمثابة محطة إيمانية نقتبس من أنوارها وسناها ما يشحن نفوسنا تقىً نتوقف عندها في رحلة سنوية تدور عجلتها في خضم سيلٍ من هموم الحياة اللصيقة بنا التي لا تنتهي متاهاتها، إلا عندما تحل علينا تلك المناسبات فتزيح عنا وتخفف بعضًا من أعباء وأهوال مكابدات الحياة، وعلى قدر ازدياد بعدنا عن تلك المحطة النبوية وذكراها الجليلة تزداد عيشة الضنك المحيطة بنا.
قبل عقودٍ خلَت بدأت نزاعات الاختلاف تدب في أوساطنا حول مشروعية الاحتفاء بتلك المناسبات، بدافع الالتزام الشرعي بنبذ كل ما لم ترد به نصوص جلية من الشريعة وبالتالي إلصاق تهمة البدعة الضلالية بتلك العادات الاحتفالية، ليعقبه الرد على مزعوم ذلك، بتجلية التفسير المغلوط لمعنى البدعة، وانسجام الابتهاج بمناسباتنا الدينية مع روح ومقاصد الشريعة الغراء وعدم الخروج عليها ألبته. ودخلنا إثر ذلك، الانقسام بين المنكرين والمقرين، في معتركِ صراعٍ شرعيٍ خَبَت معه نورانية تلك الاحتفائيات ومناسباتها.
تطور الأمر في أيامنا هذه، لم يعد الصراع دينيًا أو شرعيًا تحكمه نصوص الشريعة أو مقاصدها وروحها، بل أضحى سياسيًا، إذ طغى الجانب السياسي بصراعاته المقيتة على تقرير أو عدم تقرير شرعية مناسباتنا الدينية. والأنكى والأدمى أن ترتبط عداءاتنا السياسية بتقرير مشروعية الاحتفاء بمناسبة عظيمة وجليلة تتعلق بسيد الأولين والآخرين. وزد على ذلك أمرًا يندى له الجبين ويصيبنا في مقتل يؤثر على صفائية نفوسنا ورفعة عقولنا، ألا وهو استغلال مثل هكذا مناسبة وغيرها إما للدعم المادي والتأييد السياسي عند إقرارها، أو للتحريض والتعنيف السياسي عند إنكارها، وهو إقرار أو إنكار في مجمله ينطلق من توجهات ودوافع سياسية لفئاتٍ لا يحكمها وازعٌ من ضمير أو ورعٌ من دين أو للأسف، تعظيمٌ صادق لرسولنا الأمين. فيا قوم: قليلًا من حَياءِ وبعضًا من عَقل (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ).
** المقالة تعبر عن رأي صاحبها وليس بالضرورة عن سياسة الموقع.