الــيَمـنُ وعَـزِيـزُهـا الـمُنتَظَـر.. عِجَـافُ الـسِّـنِين ولَحظَـةُ الخَلاص
إبراهيم الأهدل
قديمـًا، وكما هو مَسْطُورٌ في ذاكرةِ التاريخ وأكَّدَهُ قرآنُنا الكريم، دخلَت مِصرُ في غَياهِبِ مِحنَةٍ كادَت أن تعصفَ بالدولة ورعاياها، ولولا أنّ المولَى سُبحانَهُ سخَّرَ لها منقِذًا حكِيمًا، عليمًا بحُلُولِ تلكَ المحنةِ وتدابيرِ علاجِها، لما تجاوزتْ مِصرُ تلك المحنةَ وخرجَت منها بسلام. كان سيدُنا يوسفُ الصِّديق، نّبيُ اللَّه، هو ذلك المنقِذ، وكان تعيينُه عزيزًا لمصرَ من مَلِكها بمثابةِ تَسليمِ رايةِ الحُكم ودفَّتها إليه، دون أي التفاتٍ لمعيار العقيدة حينها، فقد كان الجديرَ بمنصب العزيز (الوزير الأول) والأصلحَ له في تلك الفترة الاستثنائية الحَرِجَة. وتلك مزيّةٌ تحسبُ لملكِ مصر، فهكذا هم رجال الحكم العظماء يقدمون مصالح دولتهم ومصالح رعاياهم لِتَسمُوَ على أي اعتباراتٍ أخرى، وبتسليمٍ مطلقٍ لا يحولُ دونهُ غرورُ سلطةٍ أو زهوةُ حُكم أو هوَى نَفس.
كان من نتائجِ ذلك القَرارِ الحَكيمِ، أَنْ تَوفَّق سيدُنا يوسفُ في مهمتهِ الموكلةِ إليه، فأنقذَ الدولةَ ورعاياها مِن سُقوطٍ وشيكٍ وهلاكٍ مُحقق، وتجاوزَ بهما، المُصَابَ الذي يعدُّ الأخطرَ على البلاد منذُ ظهورِها ونشأتها. لقد ضحَّت آنذاك المملكة المصرية بصبرها أربعَ عشرةَ سنةً من عمرها، لِتَخطِّي نفق تلك المِحنَةِ المُظلِمَة، وتخطَّتها فعلاً وبجدَارة، وامتنَّت يومَها مِصرُ وشعبُها، لـعبقريةِ عزيزِهـا المُلهَم ومُخلِّصِها العظيم.
وحقيقةً، فقد شَاركَ عزيزَ مصرَ في ذلك الفضلِ والإنجَاز، بَصِيرةُ الملك التي أًعانتهُ على حُسْنِ اختِيار وتعيينِ الأصلحِ والأجدرِ لِتولِّي أمورِ تلك المرحلةِ الصَّعبة، وكذا صَبْرُ الرعيّة والتزامهم حرفية توجيهات العزيزِ رغم دقتها وقساوتها.
إنَّ ذلك الانسَجَامَ والتعاضَد بين طرفي الدولة (الحاكم والمحكوم) بغيةَ تحقيقِ الخلاص من تلك المحنة، وتسهيلِ كافة مقوِّمات التَّغَلبِ عليها، ليُعدَّانِ أبرزَ العواملِ الأساسية لفاعليَّة طَوقِ النَّجاةِ الذي مدَّ حبالَهُ عزيزُ مصرَ وعظيمُها؛ لانتشالِ مِصرَ الغريقة، مِن بحرِ محنتِها إلى شَاطئ الخلاص، بعدَ عقدٍ ونصفٍ من تقلُّباتِ السَّنينِ بين سَبعٍ رَخَاءٍ سِمَان، وسَبعٍ عِجَافٍ شِدَاد، ثم عامٍ فيهِ يُغاثُ الناسُ وفيهِ يعصِرون.
واسْتلهامًا مما سَبق، فإنّنـا في يمنِ الإيمانِ وبلدِ الحِكمة – وإنْ كانَ حقيقةُ واقعِنا يُؤكدُ ضَعْفَ الإيمانِ في قلوبنا، وإضَاعتَنا لبوصلةِ الحِكمةِ المعهودةِ عنَّا – لَنتُوقُ بعد أربعَ عَشْرَةَ سنةً عَجفَاءَ – تجرَّعنا خلالها وعلى مراحلَ متفاوتةٍ، مرارةَ عناءٍ، وألمَ معاناةٍ، بلغَت بنا كشعبٍ مبلغًا لا نستطيعُ معهُ صبرًا، وبعثرَت شَملنا، وشرَّدتنا في أنحَاءِ الأرض، وجَعلَتنا في حالةٍ مِنَ الاِنعدَامِ الأًمني واللا استقرارِ المعيشي، أُنهِكَتْ معهُ نفوسُنا وخارَت قُوَانـا، وارتسَمتْ تجاعيدُ البؤسِ على وجُوهنا، ومرضَتْ قلوبُنا، وأُرهِقَتْ عقولُنا، وغشَتْ أبصَارَنا الغِشَاوة – لَـنتُوقُ لِمُنقِـذٍ لنـا مِن براثنِ كل تلك الابتلاءات، ومُخلِّصٍ من كل تلك المِحَن التي نرتع فيها.
إننا نتأمَّل ونرتجي مِنَ اللَّهِ تعالى أن يُسخَّرَ لنا مَن يُصلِحُ ما أفسدَه سَاستُنا وحكَّامُنا في بلدنـا، وساداتُنا في أقوامِنا، وكبراؤنـا في أهالينا، وقياداتُنا في أحزابنـا، ونفوسنُا الأمَّاراتُ بالسُّوء، فقد ضاقَتْ علينا الأرضُ بما رَحُبَت، بل وضِقنا ذَرعًا بأنفسِنا.
قرابةَ عقدٍ ونصفٍ من عُمُرِ الدَّولةِ والشَّعبِ، ذهبَ هباءً أدراجَ الرِّياح، شاخَت معه اليمنُ، وتقسَّمتُ جُغرافيَّتُها، وتمزَّقتْ وحدتُها، وتشَرَّخَ بنيانُ نسِيجِها الاجتماعي، وضَاعَت كثيرٌ من عادَاتِها وقِيَمها النبيلة، وشاخَ معه اليمنيون، وترهَّلت حياتُهم وتنكَّسَتْ ظهورُهم في الخَلْقِ من باطلِ ما تجرَّعُوه، كل ذلك جعلنا نتوقُ للانعتاق من عِجَافِ سَنواتٍ خلَت بِشرِّها وشُرورِها وسُوئِها وسَيّئاتِها، والفِكَاكِ من آثارِ واقعها الملازمِ لنا في حاضرنا.
بل وأكثر من ذلك، فقد خَلَق ذلك الوضع المزر في ضمائِر نفوسِنا، وقناعَاتِ عقولنا، إجماعًا – لا نعتقد أنّ هناك من سيحيدُ عنه إلا متكَسِّبٌ من معاناةِ الوطنِ وأبنائه، وما أقلَّهم وأنذَلَهم – إجماعـًا لِطيِّ صَفحاتِ أحوالِ واقعنا المأسَاوي الذي لا يَسُر، وإغلاقِ دفَتّي كتابِ صَّفَحاتِه بحُقبتها الزَّمنيةِ المَقِيتة، ورَكلِها إلى مزبلةِ التّاريخ، كماضٍ غيرِ مأسوفٍ عليه، ليس في ذِكرَاهُ سوى باعِثِ تندُّمٍ وتحسُّرٍ على مجرياتِه وأحدَاثِه.
ولِــذَا فإننا كيمنيينَ بتنَا نَتوقُ وبشدةٍ إلى مَنْ يَنتشِلُنا مِن هذا الواقعِ المرِيرِ الذي سئمناه، خصوصًا بعد عَجْزٍ وجُمودٍ استطَالَ أمَدُهُ من القادة المتربعين، شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا، على بقايا أشلاء وطنٍ جريحٍ مُنهكٍ، لا يَستطيعُ التقاطَ أنفاسِه. وما أَخَالُنا جميعًا هذه اللحظة إلا صوتًا واحِدًا يَصدحُ بِالدَّعواتِ إلى المولى سبحَانَهُ وتَعالى لِيُسَخِّرَ لنا عزيزًا ومنقذًا كعزيزِ مِصرَ، غير أنَّه لا يُوحَى إليه، يكونُ طَوقَ نجَاةٍ لليمنِ واليمنيينَ من مستنقعِ التشرذُمِ والتناحُرِ، ورافعةَ عِـزٍّ لهم من مهانةِ واقعِ حياةٍ مُؤلمةِ إلى واقعِ حياةٍ كريمةٍ، تُعاشُ في كنفِ الدولة وتحتَ مظلتها المتّسِعة للجَميع، خَاليةٍ من بُؤسِ ومثَالبِ ما مضَى.
وذاكَ أمرٌ يستوجبُ أن تُوكَلَ إلى (منقذِ اليمن) زمامُ الأمورِ في البلاد، وتؤولَ إليه كلُّ مقاليدِها، وأن تُؤثِـرَهُ على نفسِها قياداتُ السلطاتِ الحاكمة المتفرقة، طوعًا أو كرهًا، وينصَاعَ لهُ الشَّعبُ كافةً ويُسَلِّمون. وإلى أن تتجلى لحظةُ الاستجابةِ الإلهيةِ لاستغاثةِ اليَمنِ واليَمَنيّينَ تِلك، سَتظلُّ أبصارُنـا شَاخِصَةً تترقبُ لحظةَ الفَرجِ والخَلاص، المأًمولة على يَدَيْ “عزيزِ اليمنِ المُنتَظَر”.