منبر حر لكل اليمنيين

خَلْفَ الجَبل

66

قصة قصيرة

سمعتُ في صغري جدتي وهي تقول إن خلف الجبل مكانٌ لا يُقترَب منه في القرية، فيه الكثير من الجن التي تخطفك إلى جبالها لتستعبدك هناك، فمنهم من لا يعود أبداً كأبي ومنهم من يخطفه جن على هيئة طائر عملاق يأخذه إلى حيث لا يعلم أحد. وقد شاهد جميع أهل القرية ذلك الطير وهو يأخذ جارنا مُحسن قبل زمن؛ كان يصرخ والطير قابضاً عليه كما قالت زوجته ويطلبُ منها السماح دنيا وآخرة بينما الآخرون قالو إنه ليس هو.

بعدها لم أكن طفلاً عندما ذهبتُ إلى هناك، فقد بلغتُ من العمر كي أصير فتى أساعد جدتي في الزراعة ومن وقت لآخر أرعى الغنم مع الأخذ بالحذر. ولكن بعد ضياع الغنمة “بُقْشَة” ويأسِنا من عودتها، طلَبَتْ جدتي من وضحى الذهاب للبحث عنها، لبّت وضحى طلبها بسرور وقالت ستذهب صباح الغد فشكَرتْها جدتي بألف ريال عن طريقي. أوصلتُ الفلوس لها وأكّدت لي ذهابي معها: ” ارقد مبكر وبكرة الصبح تجي معي يا رِجل الكلب”، هذه كُنيتي المفضلة لديها؛ وضحى طويلة جداً ودقيقة الوجه ولديها بشرة حنطية تصير مع الشمس أكثر جاذبية، وقد كنتُ حين أمشي معها طولي يصل إلى أعلى خصرها بقليل.

استيقظتُ على قرع الباب وهمهمة جدتي مع وضحى وتعاليمها لها، انتظرنا ريثما أعدت لنا أمي الفطور، تناولنا الفاصولياء المسلوقة حيث مذاقها في الصباح يصير مختلف اللذة وشربنا الشاي بسرعة ثم مشينا للبحث عن بقشة. الطريق طويل قبل أن نصل للجبال لذا كان على وضحى اختصاره بالكلام وأنا في الإنصات فهي لو ابتدأت كلامها لا تتوقف ولا تسمح لك بمشاركتها.

يبدو العالم أكثر حقيقية في الجبال المحيطة على القرية، حيث مضينا إلى هناك متدثرين بالأرض والسماء ورائحة الشجر المتنوِّع الذي ينفش من كل مكان خلال الطريق. أحجار، صخور، حشائش نَمُرّ عليها، طيور تقف وتفزع من مجيئنا وكلامنا، روث أغنام طري أو يابس له رائحة أرضية وأصيلة. سمعنا أحدهم يضرب الشجر الكبيرة بالفأس لأجل أن تأكل الأغنام منه وما يتبقى يذهب إلى “المِحطاب” حيث هناك سيتَيَبّس بمهل ويتحول إلى لونه الذهبي وهكذا سيكون قد حان وقته للاشتعال في التنانير القروية، هذا في الجبال القريبة أما البعيدة فعادة ما يغيب تواجد البشر فيها إلا مصادفة.

حين اقتربنا من تلك الجبال ونحن ننادي لبقشة بدأتُ أيأس وأخاف. “لن نلقى بقشة يا وضحى” أبديتُ تخميني، فقاطعتني:
إيش عرّفك.. أنت ما عليك إلا نلقاها يا رجل الكلب.
رددت: أين؟
“امشي بعدي”
أكلنا غداءنا الذي أخذناه معنا واسترحنا حتى تتنازل الشمس الحارة عن سطوتها قليلاً. ثم مشيتُ بعدها طوال الطريق دون مانع حتى اقتربنا من الوجهة التي قصدَتَها. بدأتُ بمعارضتها: “أين سنذهب؟ وضحى.. لا تقولي خلف الجبل”. مضتْ صامتة يظهر عليها رغبتها بتجاهلي.
“لا لن أذهب معكِ” ثم توقفتْ لتخرق صمتها هذه المرة وتقنعني بأننا سنذهب وسنعود سريعاً ولن يحدث شيئاً وأردفت لي بمكر: ليش كذا أنت خواف؟!
بدت جادة وأخافتني جديتها. “اذهبي لحالك”، قلت لها غاضباً، وهكذا فعلت بعد أن تركتها واتخذت طريق العودة. مضيتُ أحدث نفسي متردداً ما إن كنتُ محقاً في تركها.

سمعت صراخ: “أأأأي…أأأوه واااثامر”. إنه لوضحى ذات الصوت الحاد وهي تناديني، لم أكن قد ابتعدتُ كثيراً، لذا مسرعاً عدتُ. وصلتُ إليها وما إن شاهدتها بوضوح رأيت ضحكتها المجلجلة التي تبرز منها أسنانها المتراصة متساوية، لقد خدَعتني. تحركَتْ لتواصل الطريق ونسيَتْ الماء الذي جلبناه معنا. وبدون إلحاح منها هذه المرة فضّلتُ المضي معها وأنا أردد في سري: جدتي ستضربني إذا عدت من دون وضحى فماذا سيقول الناس عني؟ لكن ما حصل لأبي صار كأنه سيتكرر لي لتغدو أمي وحيدة.

أخبرتني أمي عن تلك الليلة التي غادر بها أبي بأنها أقسى لياليها، ليس لأن أبي اختفى حينها فلم تكن تعلم اختفاءه بعد، بل لأنني كنت رضيعاً واختنقتُ بالماء وأُغمي عليَّ، لِمَا دفع أبي ليظن أنني مت. استيقظتُ بعد ساعة لكنني لم أتوقف عن البكاء واستمر احمرار وجهي الذي أرعب أمي وأبي معاً. أنا الابن البكر والوحيد لأبي لذلك لم يتوانَ لحظة للذهاب إلى المدينة، تبعد المدينة كثيراً عنا إذا ما سلكها عبر الطريق الآمنة وتُختَصر عن طريق خلف الجبل.
علِمَت أمي بذهابه من هناك، وتيقّنت أيضاً أنه لن يستمع لمنعها له متوسِّلة. ذهب مسرعاً، وبالرغم أني توقفت عن البكاء بعد ثلاثة أيام لم يعد أبي.

ازداد نبض قلبي أكثر حين وضعتُ أول خطوة وراء الجبل فقد كانت الأشجار الكثيفة التي تتسلل الظلمة من بينها، مشهد يثير الرعب ويستوجب ما حصل له من تحذير. قاومتُ رغبتي بالعودة ومضيت نازلاً إلى أسفل فها نحن خلف الجبل بالتحديد.
……
وصلنا إلى الأكَمة التي تفصلنا عن مدخل فوهة ممتدة على الأرض تشكَّلت من شجر لم أكتِشف اسمه بعد. المدخل يبدو أنه مبتدأ لسرداب أو سراديب متناهية مظلمة.
قلتُ: “بسم الله”، وقرأتُ المعوذات فهي تصرف الجن، واسترسلتُ بالمشي مشجعاً نفسي غير مكترث لنداءاتٍ باسم بقشة التي بدت أنها ليست لوضحى تلك اللحظة.

الطريق مظلمة، لا نور. شعاعات نحيلة فقط، تدخل بصعوبة من خلال الشجر الكثيف، ظللت أمشي، أتلفت.
“شششش”
صوت يفزعني لكني أدركت أنه فحيح الأوراق اليابسة على الأرض، أتلفت يميناً ويساراً، فوق وأسفل قدمي، ربما تكون هناك بئر مخفية كتلك التي سقط فيها أحد القرويين أثناء ذهابه إلى هنا ولكن ما أطأ عليه بقدمي يبدو صلباً ومع هذا أبقيت حذري.

مضينا نقتحم كل الأماكن الضيِّقة خلف الجبل، وهكذا بعد تخبّط وضعنا أقدامنا في الضوء، فقد أخرجَنَا السرداب إلى باحة واسعة لا شيء فيها سوى الصخور ولا آثار لطريق بشرية.
من بعيد جذَبني سراب ليقنعني أن هناك ماء في مستقر نظري،
مضت وضحى نحوه، قالت إنها عاطشة فقد تذكَّرتْ أنها نسيت الماء، ورغم المسافة البعيدة لم نصل لشيء سوى أننا صعدنا جبلاً آخر أصغر من الأول، استمرت بالمشي وكأنها ترى شيئاً آخر أو تقصده، هذه اللحظة حتى أنا رأيته، سراب آخر، منظر مشوَّش لمجموعة بيوت بعيدة. اتجهنا سوياً إليه.

بعد أن هبطنا من الجبل ومضينا غير مبتعدين عنه كثيراً، وصلنا إلى بيوت تبدو بداية لقرية. طرقَت وضحى إحدى بيوتها. بعد ثوان فتحت الباب عجوزٌ تضع وشم أخضر في دقنها، وتبدو بعمر جدتي السبعيني، وتبادلت وضحى محادثة سريعة معها وعادت إلى الداخل وجلبت معها ماء، شربت وضحى ثم نادتني للشرب. جلسنا قليلاً ثم استأذنَت لنا للعودة، استودعتنا العجوز ثم أشارت إلى الطريق الذي أتينا منه وقالت محذّرة ألا نسلك من هناك ففي قريتهم أيضاً خلف الجبل طريق الجن ومن يمشي منه لا يعود.
لم تخفنا تحذيراتها لأننا نجونا قبل قليل من طريق خلف الجبل نفسه لذا اتجهنا إليه كي نعود للقرية.. لكنا لم نعد إليها منذ خمسة عشر سنة.

تعليقات