مواقيت لأحزان سبأ
1-
اصْعَدْ شجونَك كي ترى بلداً يمرُّ وخلفََه الآهاتُ. إِصعدْ كي تـرى هذا المسمى الوقتَ ملقىً في العـراء، ترى امتدادَ الأرضِ مرآةً محطمةً وحزنُك والمدى خطانِ مؤتلفان. ليس سـواك إلاّ المسندُ المُلقى على حجرٍ يكلمُ نَفسَه. يا أنت يا هذا المُكلّمُ نفسَهُ، ضاقت بنا الأسفارُ، والطرقاتُ قوسٌ ضيـّقٌ، والروحُ تُجـرَحُ في الدروب إذا تضيق، وكُلما مِلنا إلى شجنٍ يفاجئُنا سواه. فمن سيقرأ حَزنَنا المنسي، من نقشٍ بأقصى حضرموتَ إلى جبال في السراةِِ. وهـل سنصعد سلمَ الأشجـانِ مـن نقشٍ على حجرٍ ، إلى جبلٍ، إلى أفقٍ يُطلُّ، لكي نرى بلـداً يمر وخلفـه الآهاتُ آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ
-2-
بعصا النقوشِ ومئزرِ السبئي، سوف ترى من الأشياء دهشتَها وغيرُك لا يـرى إلاّ هواه. وأنت مـن قلق الشجون، إلى التأملِ في خبايا الوقتِ. كيف بكتْ بلادٌ باعدتْ أسفـارَها وتوزعت تعباً على شجر المواجعِ.. كيف خبأت الأماني في جنـاح الطيـر والسدرِ القليلِ. ومسندٍ في الروح والأحجار، كيف تصعدت أشجانهُ من خلف أسرابِ المواسم كالدعاء. كأن هذا النقشَ مسرى الكائناتِ إلى مرايا الأرض. بـابُ الكونِ يفتح بالتأملِ والغنـاء. فهل سنصعد سلمَ الأشجـانِ مـن خمطٍ إلى أثلٍ إلى سـدرٍ قليلٍ كي نرى بلداً يمر وخلفَـه الآهاتُ. آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.
-3 –
يا أنت، خلفَكَ وهمُ عرشِ الماءِ أسفارٌ مباعدةٌ وحلمٌ غامضٌ. بلدٌ يفـر بما تبقى منه. خلفَك هدهدٌ بـالٍ يحط على جـدار القلبِ. خلفَك ما تبقى منك حـزنٌ مشمسٌ في نصف قـوسِ الأرض.. فاصعد ربما تتساقط الأسفارُ منهكةً وتخرجنـا خطانا.. ربما تتبدل الآيـات أو نبكي ونجمعُ ما تبقى من حطـام الشمسِ والأحجـار والسدرِ القليـل لكي نسميها بـلاداً ليس في دمنـا سواها. مسندُ الأحـلامِ والعرمُ العجـوزُ. كأنها والروح نقشٌ في سماءِ الغيبِ. فاصعـد سلَمَ الأشجـانِ من أسفارك الدنيا إلى ما يشبه الأحـلامَ، سوف ترى بلاداً خلفها الآهاتُ. آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.
-4-
يا أنت، روحُك ملتقى طرق الأسى وقوافل الهذيان. روحُك صار مجرى الريحِ. فانزع قشرةَ الأسمـاء. قوسُك في كثيف الحزنِ من عَظْم اللغات. وأيُ سهمٍ غير هذا القلب يبدو خادعاً. يا أنت صبرُك واسعٌ والأرضُ لا تُؤويك. سوف ترى فضاء نادراً وتخوض خـوفاً في قديم الماء، أولُه أجاجٌ مالحٌ. والوهمُ أسبابٌ. لوَ اْنك في جناح الطير كنت ترى خرائب غـامضِ الرؤيا وآيَ الريح. فاصعد، ربما تتبدل الآياتُ. نملُ الأرضِ خلفَك صاعدٌ. سترى وتُبكي من يراك وأنت تجمع ما تساقط من كلام الطيرِ عن بلدٍ يمر وخَلفه الآهات. آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.
-5-
يا أنت يا هذا المدثرُ نفسَهُ بتراب ذاكرةٍ لِجنَّاتٍ من الأعنـابِ، بالموتِ المؤجلِ، بالكثيف من البصيرة، بالدموعِ قواقعِ الأحلامِ، بالأرضِ التي نقصت قليلاً عن جناحِ بعوضةٍ تفنى، بكفِك وهي تخرجُ من شقوق الماءِ ظامئةً إلى ما لا تلامسه اللغـاتُ، بحسن هـذا المسند الملقى على حجـر الذهولِ ، بظـل سيل إسمه العرِمُ العجوزُ، بقـوسِ روحِك وهي تبكي في تشهدها الأخيـرِ.. ألا ترى لغتي مشققةً وحزني واضحاً. وأنا الوحيدُ تكاثرت ضدي السيولُ (كأنني غرضُ الرماةِ). ولست أول من رأى شجر الخطيئـةِ. من يخبئ شكَه لتَضيق في الدنيا مخيلةُ الطيورِ. أنا فضاءٌ نـادرٌ. تَعبت شجوني في تصعُّدِهـا إليك، وقلبيَ المحزونُ يشبـه حبةَ الذُرِة الصغيرةِ وهي تسقطُ في الصقيلِ من السكون.
-6-
لكأنّ حلمَك مقبلٌ، فاسرع وناوله عصاك. وخذ كثيراً من رمادِ القلبِ وانثره على شجر الخوارق. ربما تتجنبُ الأقـدارَ قبل وقوعِها، وترى ابتداءَ الخلقِ في غيبوبـةٍ للمسند الملقى على شجنٍ يقـوم كـأنه الصلصالُ.. أُنفخ بعضَ روحِك فيه سوف ترى بأنك قابَ قوسٍ واحـدٍ من شوكة المعنى التي ما مسّها بشرٌ سواك.. فهل ستكتم ما تـرى، وتظنُّ إثماً أنَّ لا عيناً تراك، وأنت تطوي خِرقةَ الرؤيا وتُخرجُ كـلَ هذا البرقِ من جمر الكـلامِ وتمسك الخيطَ الأخيرَ من السمـاءِ لكي ترى بجـوارحٍ أخرى بلاداً تشبـه الفردوس.. ظنُكَ آثمٌ، فالطير لا وطنٌ له إلاّ الغناء.
-7-
يا أنتَ لا وطنٌ سوى هذا المسمى في كتاب الأرضِ: وقعَ الدهشةِ الأولى. المسمى في مزاج الروحِ: حالاتِ الحلولِ وبابَها الأبهى. المسمى في بنـان الغيب: فَصّ الخاتم المسحور.. فاصعد ربما تتبدل الآياتُ، أو نبكي ونرسمُ آهةَ الحنّاءِ في أقصى خطـوط القلبِ! كفُك متعبٌ، والحُلُم آهاتٌ من البلور بعثرها الأسى، والريحُ غاضبةٌ عليك. فكيف تجمع ما تساقط من فُتاتِ العمرِ. كفكُ متعبٌ، وعصـاك أقصرُ من ذراعِ البحر.. كيف تشقُّهُ نصفين كي تمضي إلى بلـدٍ يمرُّ وخلفَه الآهات آهٍ بعد آهٍ بعد آهْ.