منبر حر لكل اليمنيين

الـحِـقـدُ السِّيـاسِـي (سَـوادُ الأفـكَـارِ والأفـئـدةِ والأبـصَـار)

46

من نافلةِ القولِ أنّ كلَ فعلٍ ذميم وعملٍ أثيم يستتبعُ ، لا محالةَ، عقوبةً زاجرةً أو رادعة، تنص عليها نواميسُ العدالة، وذلك الاستتباعُ (العقوبةُ المتأخرة) يَصدُقُ على كلِ فعلٍ مَجَرَّمٍ أو مُشِين، إلا آفة الحقد فنظرًا لبشاعتها فإن عقوبتها تتقدمها، ويتجلى العقاب فيها ابتداءً ، فلولا حرقةٌ في القلبِ وكمدٍ مستعرٍ فيه تجاهَ أُولي الفضيلة ومكارمِ الخِصَال لما تفنَّنت ألسِنةُ الحاقدين بنشر كلِّ ما من شأنه التشويه والانتقاص من أربابِ تلك السجايا، ولما نفثوا داءَ سمومهم من عوَارٍ ومعايبَ ومثالبَ ورذائلَ في حق أهل الكمال والأفضال.

إنَّ المحقود عليه، غالبًا ما يكون ذا صفاتٍ باهرة ومواهبَ متعددة مَحظِيًّا بمزايا لَدُنِيّـة أو دنيوية، تدفع الحاقد دفعاً -لافتقاده تلك المزايا وشعوره بداءِ النقص المسيطر عليه في حركة حياته- لإيهام المجتمع بخلاف ما عليه حقيقة أهل الكمال، فيسعى بكل ما أوتي من سُبُل – وفي كل المناسبات – لتأكيدها، وإبراز النقائص في حق خصومه، دون وازعٍ من ضمير أو زاجرٍ من دينٍ حنيف أو ناهٍ من مروءةٍ وخُلُقٍ كريم.

لكنّ الجميلَ أن هناك قُوةً خارقةً يستدعيها ذوو الألباب من الورى عند اللزوم، تكمن في حاسة سادسة، يطلق عليها (الإحساس). وهي استشعارٌ قلبي وإفتاءٌ منه يرشدك للصواب عندما تُغَـمُّ عليك الأمور وتلتبس، وتلك حاسة أقوى وأمنع تنهار أمامها قدرات الحاقدين، فمن خلالها ترى عيونُ القلوب وأحاسيسُ النفوس بواطنَ الأمور وتتجلى لذوي الحصَافة- بعنايةٍ من المولى- حقيقة أهل الفضيلة؛ لتبوءَ بالخسران أمامهم مكايدات أهل الظواهر الزائفة وتتكشَّف نوايا سوءاتهم الخفية. أضفْ إلى أنَّه ثمَّتَ سبيلٌ صادقٌ يمكن أن ينتهجَهُ البشرُ، متى ما أرادوا، لاستظهار الحقائق المستترة خلف ستار الزيفِ وعباءةِ التدليس وغطاءِ الأحقاد، ألا وهو استقراء الواقع والنظر فيه بحيادية تامة، فبصَماتُ الواقع لا تكذب ولا تسمح بالتزييف، وإن حصل ثمَّة شيٌ من ذلك القبيل فإنه لا يدوم ومآله إلى زوال.

ومنَ العجَبِ الذي يستنطقُ لسانَك بذكرِ اللَّه، أنَّ المجهود المبذول من حاقدي النفوس يؤتي نتائجَ عكسية، فمن ظاهر الضرر يشع باطنُ النفع، فهم يقدِّمون ومن حيث لا يشعرون خدمةً جليلةً لذوي النبل والشهامة فيعلُون ذكرَهم ويرفعون شأنهم من حيثُ أرادوا الخفضَ والتحقيرَ لهم، وينشرون كمالاتِ فضائلهم من حيث أرادوا الامتهانَ والانتقاصَ منهم، وهكذا، حتى يُضحِيَ ظاهرَ ما أرادوه وروَّجُوا له مرجُوحاً أمام كفةٍ راجحةٍ مثقلةٍ بواطنُها بالحقيقة- التي وإن كانت محجوبةً عن بعض العقول من الخليقة إلا أنَّ أنوارَها ساطعةٌ جليةٌ جلاءَ الشمس في رابعةِ النهارِ أمام أهل الفراسة والعدل والإنصاف وأمام أهل الفكر وإمعان النظر والتدبر . وكما قيل فإن الحسد يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود، فهو “داءٌ دَوِي، وخُلُق رديء، يقدحُ في الـمروءة، ولا يزال صاحبه حليفَ هُمُوم، وألِيفَ غُمُوم”.

وتلك النتيجة العكسية -التي لا يتوقعها أهل الأحقاد طبعاً – قد وصَّفها أهل الحكمة والبلاغة في قولهم المنشود: وإذَا أرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ : طُوِيَتْ أتَاحَ لها لِسَانَ حَسُودٍ. وهي نوعٌ من عدالة السماء التي لا تخفى عليها خافية من تدليسات البشر ، ومِصدَاقُ تعهدٍ إلهي بأن لا يسمحَ بانتصارِ مُكَّارِ السُّوءِ على أهل الفضيلة والمكارم ، فلا يحيقُ المكرُ السيئُ إلا بأهله، وذاك نصُّ قرآنيُّ قطعيُّ في ثبوته ودلالته، فلا يقبل التأويل أو التحوير. فليتعبر الحاقدون ولتهدأ نفوسهم، فما أتعسَ العيشَ بقلبٍ حاقد، وما أهنَأَ الحياةَ لِذِي قلبٍ سليم.

ويستوجب المقام هنا أن نُعرِّج إلى مفهوم حقدٍ من نوع خاص، يمكن أن نطلق عليه مصطلح “الحقد السياسي”. ففي معترك السياسة قد تبرز ثلةٌ حاقدةٌ تسخِّر كل شعبيتها ومُكنَاتِها وطاقاتها وأدواتها بطريقة بشعة، بعيدةٍ كل البعد عن الإنصاف، وخاليةٍ من دَسَمِ الوطنية، تنفث سمومَها في كل وسيلةٍ من وسائل الاتصال السياسي، والتواصل الاجتماعي، لتحقيق مآربَ شخصيةٍ دونَ اعتبارٍ لكل طقوس المعارضة السياسية الشريفة والنزيهة، التي تعارض لتصلحَ أخطاء الحاكمين وتستهدف حماية الوطن والمواطنين من تبعات تلك الأخطاء، لا لتنتقمَ من شخوص الحكام – وعوائلهم -ولو بتدمير كل مقومات الدولة ونظامها القائم، وعرقلة كل ما فيه صلاحٌ للوطن وتحسين معيشة الناس، تحت يافطة (فليسقط النظام) واضعةً نصب عينيها شعارَ سَوءٍ، منهجه: الغاية تبرر الوسيلة، وما أقبحه من شعار عندما يسيطر على الأفكار، فتَستَحِلَّ العمل بمقتضاه، بل وتستحليه.

ولعلَّ أبرز حقدٍ سياسي شاهدناه خلال الأيام الماضية القريبة، كان ذلك الحقدُ الذي عَجَّت به بعضُ القنوات المُغرضَة والصحفُ الصفراءُ ومواقع السوشيال ميديا – وما أقلها- تجاه شخص السفير أحمد علي عبدالله صالح، (نجل رئيس اليمن الأسبق)، ونائب رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام، تلك الشخصية الوطنية النبيلة المهذَّبة، التي التزمت الصمت طيلة عشر سِنينَ خَلَت تجاهَ إساءاتٍ حاقدة لم تَأْلُ جهداً في كل محفلٍ ومناسبة إلا وسخَّرتها للنياح والنيل من شخصه وشخوص عائلته، وازدادت شرارة حقدها وصارت لهبًا كبيرًا أحرق قلوبهم المريضة وأنطق ألسنتهم المسمومة عندما أُعلِنَ رفعُ العقوبات الكيدية عنه، وإذا كان المجتمع الدولي قد عَمَدَ لذلك الاعلان مؤخرًا فهو قد استهدف تصحيحَ خطأٍ وقع فيه قبل عقدٍ من الزمن، وأعاد بذلك الأمور إلى نصابها، والأهم أنه منَحَ بذلك القرار -الصادر وبإجماعٍ من أعلى هيئةٍ دولية- رَدَّ اعتبارٍ للسفير ووالده. ومعلومٌ أنّ الرجوعَ للحق فضيلةٌ، وسجيةٔ محمودة.

لكن ذوي الحقد السياسي، وبلا شك، قد أغاضهم إنصاف الرجل، فقامت قيامتهم ولم تقعد، ولن … لأن قواميسَ أفكارهم ،كما يبدو، لا تعرف في سطورها مبدأ الرجوع للحق، ولا تعرف فضيلته ؛ لـذا ستظل قلوبهم بنار الحقد مكتوية، وأبصارُهم بغشاوتهِ متلبِّسة ورؤوسُهم بلوثَتهِ متوَشِّحة. وأمام ذلك الداء المستشري فيهم سنظل – نحن محبي السفير – نأمَلُ الصَّفـاءَ والنقـاءَ لقلوبهم، وندعوهم بكل حبٍّ ووُدٍّ لاستبدال سَوَادِ نظاراتِ أبصارهم بأخرى ذاتِ عدساتٍ ناصعةِ البياض؛ علّ زوالَ سَوادِ الأبصارِ يمهِّدُ الطريقَ لزوالِ ما في أفئدتهم من أحقادٍ مستعِرة، وجـلاءُ العين ونقـاءُ القلبِ تستنظِفانِ العقلَ من لَوثَـةِ أفكـارِه، وتنقشعُ بالتالي، سُحُب السَّوادِ التي كانت ولا زالت تتلبد بها أجواءُهم. وفي ذلك خيرٌ لهم إن كانوا يعقلون.
..

تعليقات