منبر حر لكل اليمنيين

أحمد علي عبدالله صالح.. وحديث اليمنيين

149

تبدو صياغة تأريخ ومرحلة جديدة في اليمن بالنسبة لي عملية جُزافية كأن أعيد خلق حياتي من جديد، لكن مع المتغيرات الحاصلة اليوم على الساحة الدولية يمكن القيام بالكثير من الأمور وخلق واقع جديد يفوق تصورنا، وبما أن المجتمع الدولي شعر بحجم الظلم الذي لحق بأسرة “آل صالح” وبادر لرفع الظلم الذي يعتبر شكل من أشكال التعبير عن الاعتذار، فليس بمقدوري تجاهل نداء رغبات السياسة، التي سلطت الضوء على عملية ولادة عهد جديد في اليمن، بوصفه حدثاً لم يعد سهلاً التقليل منه، رغم أن المرحلة المقبلة ما تزال مجهولة ومُستغلقة على فهم البعض، ومن الممكن أن تكون عملية إعادة خلق الروح من جديد ذات نفع يصب في خدمة القضية اليمنية ويعيد شرف الدولة لمكانه الصحيح

لم تنتهي معركتنا الوطنية بمجرد رفع العقوبات الظالمة عن الزعيم صالح والقائد أحمد علي عبدالله صالح، مازالت معركة اليمن مستمرة، خاصة وأن بلدنا مازال تحت البند السابع وهذا يعني بأن شعب كامل يقبع تحت وطأة العقوبات الدولية، ناهيك عن الصراع الدائر في البلد والعملية السياسية المعقدة التي يُرافقها فساد على كافة الأصعدة.

عندما هَممتُ بالكتابة حول هذا الأمر، ما كانت غايتي تسليخ كل جدران الماضي الذي حول شعب كامل لطابور من المقهورين، وإنما إظهار بُعد وحيد من أبعاد الحقيقة، ألا وهي مرحلة الانتقال من مجتمع تحكمه جماعات مسحله ومتطرفة، إلى مجتمع تحكمه ثقافة العلم والعمل.

وكم اعترفت لنفسي بأن الكتابة عن شخصية بحجم القائد أحمد علي عبدالله صالح صعبة للغاية، لتفرد الرجل في عالم الانضباط السلوكي، وتنوع خيالاته السياسية وأساليبه وأفكاره، حتى قرأت مقدمة لمقال قديم كتبه أحد المثقفين والنخب، فوجدتُ فيه ارتواء سخياً شافياً لشخص السفير، وجدتُ أيضاً ماكنت أبحث عنه من ضالةِ مفقودة على ضوء تحليل ما قد يترتب على مرحلة ما بعد رفع العقوبات والسيناريو الممكن حصوله لاحقاً.

وهنا أردتُ ربما أن أُكمل ما بدأتهُ في مقالةِ سابقة عن القائد أحمد علي عبدالله صالح، فما زالت في نفسي تخيلات كثيرة بشأن المرحلة المقبلة وطريقة تعاطي اليمنيين والعرب معها، فبعد نشري لمقالي السابق طافت بنفسي تأملات سريعة حول ما بعد رفع العقوبات، أحببتُ أن أوردها هنا في هذه الإطلالة العُجلى على وطن مسكون بالضجر والقلق والجمال، ولكني أجد أمامي مشهد ضبابي ربما من المبكر الحديث عنه أو رؤية مستقبله بوضوح.

أحمد علي عبدالله صالح هو ذلك الرجل الموصول بأصالة السياسة المصفاة وصرامة أساليبها وغزارة معانيها ومفرداتها الصعبة، التي تبدو وكأنها نُحتت من الصخر اللين، وفي الوقت نفسه نجدُ تخيلاته وكأنها تنهمر علينا بصورة المخترعةِ من عالم المستقبل وفضاءات نثر الحقيقة الرحبة الزاهية بالأقواس البعيدة والمشبعة بالرذاذ الضوئي، هو ذلك التجاور والتناص والمحاور بدقة متناهية في السياق وفي الجمل المحمولة على أنفاس اليمن المعشوقة البعيدة والمُستعصية على أيدي المستعمرين الجدد.

ولعلنا اليوم وفي ظل احتفالات الشعب اليمني برفع العقوبات عن الشهيد صالح ونجله القائد أحمد، نستذكر صالح بعد مرور سبعة أعوام على رحيله، فنسترجع تلك الضجة الهائلة والدوي الكبير اللذين أحدثهما برحيلهِ، فنحسُ ونحنُ نُعيد تقليب صفحات الماضي ونُمعن النظر في عناوين ذاك الحدث المفجع مثل رحيل “آخر العمالقة ” وانهيار آخر ناطحة سحاب السياسة” في اليمن والوطن العربي، نحسُ بأننا أمام شخصية سياسية عظيمة أرهبت الجميع، وجعلت صوته نداً قوياً ومنافساً يُحسب له ألف حساب في الخصومة السياسية.

لقد عرف القائد أحمد علي عبدالله صالح منذُ البداية أن عليه الانطلاق إلى سماء العالم، مُحرراً ذاته من قيود العقوبات ومن ذاتية الخصم التي أثقلت روح الوطن، كان عليه أن يسبح في فضاء جديد لم يسبقهُ إليه أحد، فها هو يُسافر بروحهِ إلى كل أرجاء الوطن، ويزور محبيه إلى كل محافظة ومديرية وقرية، إلى منازل البُسطاء والمقهورين، طامحاً في فتح قيد الطائر الحبيس في قلبهِ منذُ ألف قرن.

في هذه الشخصية الوطنية استلهم الكثير من الأفكار الناجحة سياسياً وعلى المدى البعيد، وهذا رأيي الشخصي، أذكر منها تمسكهُ بواقعه وحضارة شعبهِ وبعدالة قضيته الوطنية، لم أكن أحسب أنني على موعد باذخ مع كل هذا النقاء، وهذه الأصالة التعبيرية التي عبر عنها ملايين اليمنيين، لكن أن تجد قائداً حقيقياً بكل ما تنطوي عليه الكلمة من مغزى ودلالة، ومتواضعاً ونبيلاً كطيران الفراش الأنيق إلى سدة الحلم، في هذا الوقت بالذات، فهذه نادرة قلما يجودُ الزمن البخيل بمثلها.

ما أن بدأتُ بالقراءة المتأنية التي رافقت إعلان رفع العقوبات، حتى انزاحت الحُجب والستائر عن ذاكرتي المثقلة بعشب الصحراء، وتأكد رهاني من جديد على صاحب هذا العرس الشعبي، رهاني الذي بدأتهُ منذُ سنين عديدة وأخذ ينمو رويداً رويداً حتى أكتمل اليوم بدراً مُبين ليشع في سماء اليمن النور والهالة والفرحة التي لا حدود لها، وأظن أن الناقدة الأمريكية” إميلي ديكنسون” كانت محقة عندما قالت أن أجمل فرحة تعيشها تلك التي تحس معها أن قمة رأسك قد انتزعت من مكانها، وهذا هو التوصيف الأدق للحالة النفسية التي نعيشها اليوم.

لم يُحارب السفير أحمد علي عبدالله صالح من جهات عدة إلا لأن صدقهُ الفطري الانساني قد أخذ بفضح جهل وتخلف وأجندات خصوم الوطن، كل النقاد الذين فتحوا نيرانهم عليه كانوا ينتمون بوعيهم إلى ضلال مرحلة بائدة ولم يروا أبعد من سياج أنفسهم أو ما وراء نوافذ أرواحهم ليحملوا حقدهم إلى أماكن بعيدة، لا أرى في هجومهم عليه أي مبرر وهو الذي تجنب طوال فترة الحرب والصراع والخلافات الحديث عن أحد، ولكن الحقيقة الحقة لا توجبهُ أن يكون ألا كما يريد هو لا كما يريدهُ الآخرون.

تعليقات