منبر حر لكل اليمنيين

من التناقض محمودٌ ومذموم

40

في واحدة من مقالاته، يكاد البردوني يمتدح “تناقض” الإنسان مع نفسه، فهو يرفض الخلط بين “التناقض” و”التذبذب”.

كان يرى أن “التذبذب” قيمة أخلاقية سلبية، ويمكن التعرف عليه في صورة من الانتقال السهل بين الشيء وعكسه، بلا نقطة ارتكاز ولا نظام، فقط على سبيل العبث أو المتاجرة والكسب.

أما التناقض فقد يكون قيمة إيجابية، بل هو ضروري للمثقف والباحث، حيث اعتبره دليلاً على طول التفكير وعلى محاسبة النفس وعلى طول قراءة الأفكار ومراجعتها، فحياة الأفكار صيرورة دائمة. (أنظر كتاب قضايا يمنية، ص324).

إن كنت قد فهمتُ مقالة البردوني على الوجه الصحيح، فالخلاصة هي أن هناك نوعين من التناقض:

تناقض محمود، وذلك لأنه قائم على المراجعة الرصينة الناقدة الفاحصة، وهذا يحدث بسبب اتساع المعارف وتجدد المنظورات.

وآخر مذموم، وذلك لأنه مدفوع بالأهواء الشخصية أو بالرغبة المحضة في المتاجرة والكسب، أو المشاكسة والشهرة، وهو الذي يسميه “التذبذب”!

ومن ثمّ فـ التذبذب هو الوجه القبيح للتناقض كما أن السفسطة هي الوجه القبيح للجدل.

لا أذكر أين قرأت أنه “كلما تأدّب المرء، زهد في العناد”. ولا هذا الوصف: “وبفعل النقص في الثقافة (لأن الثقافة تَفترض قابلية للتربية) فهو عنيد، لا يُفْهَم، متمرِّد على كلّ تكوين”.

وكنت قد نشرت قبل فترة وجيزة مقطعا من رسالة طه حسين إلى صديقه، يقول فيه: “إنني أفهم أنْ تتطور وتستحيل، وأنْ تستبدل رأيًا برأي، وأسلوبًا في الفن بأسلوب، ولكني أُحبُّ لك أنْ تشعر بهذا التطور، وتقدر هذه الاستحالات، وتحسب لهما حسابهما حين تكتب أو تتحدث، فذلك خليق أنْ يدفع عنك ما قد تُتهم به من التناقض والاضطراب”.

فما يطلبه طه حسين من صديقه، كي يدفع عن نفسه تهمة التناقض والاضطراب، هو الشعور بتبدل آرائه وأساليبه وأن يحسب حسابها، بمعنى أن يكون على وعي بها، وينبّه إليها إذا لزم الأمر ويعلل تحوله من رأي إلى آخر.

هذا يعيدنا مرة أخرى إلى ابن حزم الأندلسي الذي يقول إن “الثبات الذي هو صحة العقد، والثبات الذي هو اللجاج متشابهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق”.

والقصد هنا الثبات على الرأي أو على الموقف والحال، وعكسه التلون والاضطراب.

فمن الثبات ما يستحق الثناء ومنه ما يستحق الذم وهو “اللجاج” على الرغم من الشبه بينهما.

وأما التمييز بين هذا وذاك فليس سهلاً إلا على العارف الخبير بكيفية الأخلاق.

والمعنى أن الثبات لا يُذم بإطلاق ولا يُمدح بإطلاق، وإنما يمدح أو يُذم بإضافته إلى أمر آخر: شخص وزمان ومكان وموضوع.

من؟ وماذا؟ ومتى؟ وإلى أي حد؟ وفي أي قضية؟ ولأي غاية؟ أحقٌّ هو أم باطل؟

والمعرفة بكيفية الأخلاق هي ما نرجع إليه لتعيين المحامد والمخازي، الشريف والوضيع، المذموم والمحمود من الأقوال والأفعال.

وهي مَلَكَة ليست في متناول الجميع.

وقد أشار أبو حيان التوحيدي إلى أن “تحديد الأخلاق لا يصح إلا بضرب من التجوز والتسمح، وذلك أنها متلابسة تلابسًا، ومتداخلة تداخلًا، والشيء لا يتميز عن غيره إلا ببينونة واقعة تظهر للحس اللطيف أو تتضح للعقل الشريف، ألا ترى أن التواضع مشوب بالضعة، وعلو الهمة بالكبر، وعزة النفس بالعجب، والحلم ببعض الضعف؟ هذا بالقول ربما سَهُل وانقاد، ولكن بالعقل ربما عزّ واعتاض، والأخلاق والخلق مختلطة”.

أخيراً:

وبما أن ابن حزم فقيه ومتكلم وأديب ومؤرخ عاش قبل ألف عالم، فلنقرأ تفريقه بين “اللجاج” و”الثبات الذي هو صحة العقد” بشيء من العطف لاختلاف لفظه عن لفظنا وأما المعاني فمتفقه على اختلاف الزمان.

يقول: “والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه وقد لاح له فساده أو لم يلح له صوابه ولا فساده وهذا مذموم وضده الإنصاف، وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق أو على ما اعتقده المرء حقاً ما لم يَلُح له باطله وهذا محمود وضده الاضطراب، وإنما يلام بعض هذين لأنه ضيع تدبر ما ثبت عليه وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل!”.

  • نقلا عن نيوزيمن.
تعليقات