مباحثات مسقط المولود المشوه
قراءة في المشاورات بين مليشيا الحوثي ووفد الحكومة الشرعية
منذُ اندلاع الحرب في اليمن في ٢٦ مارس ٢٠١٥م سعت عدة مبادرات عربية ودولية لإنهاء الحرب والتوصل إلى حل سلمي للصراع، لكن كلها فشلت في التوصل لأي نتائج لعدة أسباب، من ضمنها إصرار التحالف آنذاك على حسم الحرب عسكرياً بطريقة تفتقد لأهم أهداف معايير الحرب العسكرية المتعارف عليها دولياً، وإصرار ميليشيا الحوثي أيضاً بالذهاب باليمن إلى حرب طويلة الأجل بدون ادنى وعي لخطورة هذه الخطوة، مشكلة التحالف آنذاك أنه ركز في حربه على قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام من عسكريين وقبليين وشخصيات سياسية فذة، وكان يعتقد بأن حربه هذه ستكون نُزهه وسيعود إلى صنعاء برأس الشرعية، لكن سرعان ما تحولت هذه الحسابات إلى أمر في غاية الصعوبة، نظراً للقصور في الرؤية السياسية وعدم فهم طبيعة البيئة اليمنية وجغرافيتها وعدم مراعاة أيضاً ردود فعل المواطن اليمني وهو يرى بيته وبيت أهله وجيرانه تقصف ويفقد فلذات كبدة وأصدقائه، يرى أمام عينه القتل والدمار من عدو داخلي ونظام جار يُفترض أن يكون حليفاً له لا عوناً عليه وشريك بالجريمة والهدف، ثم بدأت الترتيبات إلى عقد مفاوضات عديدة لإنهاء الحرب في اليمن، على مراحل عديدة، آخرها مباحثات مسقط، التي تُعقد في أجواء مشحونة على جميع المستويات، ولم تتوفر فيها إبداء حُسن النوايا من قبل الحوثيين، وهو ما يجعلنا نسخر ونتهكم على الطرف الراعي لهذه المباحثات وعلى وفد الشرعية الذي تخلى عن ماء وجهه وذهب مهرولاً إلى مسقط بدلاً من أن يتخذ موقف وطني شجاع، خاصة وأن حبر خبر خطف الطائرات من قبل ميليشيا الحوثي لم يجف بعد، ثم كيف لها أن تجلس على طاولة واحدة مع من لم يُبدي حُسن نواياه تجاه واقعة خطف الطائرات وتنتظر منه أن يوفي بوعوده السابقة وإطلاق الأسرى؟!!
لماذا كل هذا الاستخفاف ولماذا لم ترفض الشرعية هذه المهزلة التي تخدم بالمقام الأول أذرع إيران وأجنداتها الطائفية في اليمن، وتتمسك على الأقل بمطالبها المشروعة وتسجل موقف مشرف على الأقل إلى أن تعود الطائرات المختطفة.
يعلم الجميع بأن ملف الأسرى معقد للغاية وبأن الحوثيون يماطلون في هذا الملف بشكل يعكس نفسيتهم الخبيثة التي لا تمت للإنسانية بشيء ويسعون دائماً إلى خلق عراقيل وإيجاد مبررات لتأجيل هذا الملف وترحيله وعدم البت فيه، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي يُدار بها هذا الملف؟ وماهي الآلية التي سيتم من خلالها إنهاء هذا الملف الإنساني البحت؟ علماً أن المعتقلين لدى الحوثي ليسوا أسرى حرب ولم يتم أسرهم في الجبهات، وهذا ما أكدته منظمات حقوقية عديدة، وبأن غالبية من تم سجنهم في سجون ميليشيا الحوثي تم أخذهم من المنازل واغلبهم صحفيين وإعلاميين وناشطين وكتاب ومدنيين، لم يشاركوا في أي عملية عسكرية ولم ينحازوا لطرف ولا يشكلون خطراً حقيقياً على الميليشيا، فكيف تقبل الشرعية أن يتم تبادل الأسرى على هذا الأساس، وماهي المرجعية أو الأرضية التي استندت عليها للقبول بهذا الأمر؟!! لذا نتمنى أن يُغلق هذا الملف تماماً على الأقل في الوقت الراهن وتجاوز وعود عرقوب التي تتم من عام لآخر، وأن ويعود الجميع إلى منازلهم وتبدأ مرحلة حقيقية لإنهاء كافة الملفات الشائكة التي أخلت بالكثير من القضايا وعطلت مصالح المواطنين.
من الواضح أن المباحثات ستستمر في مسقط لنحو عشرة أيام بين وفد الشرعية والحوثيون، ونرجو أن يتم تبادل جميع الأسرى من منطلق قاعدة الكل مقابل الكل، دون تمييز بين أحد، وأن يركز الجميع على نقطة مهمة “أسرى الحرب بالدرجة الأولى” فلدى الحوثي آلاف المعتقلين تم احتجازهم دون أي إجراء قانوني، آخرها موظفي المنظمات الدولية والمحلية، وهذا يؤكد أن الأزمة اليمنية تحتاج إلى نية حقيقية لإنهاء الحرب في اليمن قبل كل شيء، وإعادة بناء وترتيب الوضع الداخلي للدولة ومحاسبة ومعاقبة جميع الأطراف التي انخرطت بشكل مباشر في هذه الحرب وخلفت طابور كبير من الوفيات والجرحى والفوضى والدمار.
وفي حال افترضنا أن الجهات الراعية لمباحثات مسقط ستقوم بالحد الأدنى بتطبيق المعايير المتعلقة بتوفير ضمانات لعدم وقوع أي اختلالات وعدم تنصل الحوثي من الالتزامات التي ستخرج بها مباحثات مسقط، فإن النتيجة ستكون متوقعة سلفاً، فميليشيا الحوثي لها تاريخ طويل في المكر والخداع والتهرب من كل الالتزامات والعهود، وهو ما حصل في اتفاق استكهولم في الـ ١٣ من ديسمبر ٢٠١٨م، فقد لعبت المخابرات الإيرانية دوراً كبيراً في عرقلة جميع المباحثات والاتفاقيات، إضافة الى تورط النظام الإيراني في تنفيذ عمليات إرهابية في العمق السعودي، وسعيه الحثيث لإشعال حرب دامية داخل اليمن وخارجه، هذه المعطيات والوقائع كفيله بتبني موقف حازم من أي مباحثات قادمة، خاصة وأن الجميع يعلم بأن ميليشيا الحوثي لا تملك قرار الحل والربط وبأن النظام الإيراني يستخدمهم ورقة ضغط للحصول على امتيازات سياسية، ومن غير المتوقع أن يُغير النظام الإيراني سياسته هذه، وسيذهب مع حلفائه الحوثيين إلى أبعد نقطة يمكن الوصول إليها.
إن القضاء على ميليشيا الحوثي يتطلب العمل على عدة مستويات منها: فصل الميليشيا عن العالم الخارجي وإشراك جميع القوى السياسية الوطنية في الحرب ضدها، ومحاربة خطابها وفكرها الأيديولوجي المُتطرف بخطاب معتدل في حال فشلت عملية السلام والحوار، أما عسكرياً: يجب العمل على حل جذور المشكلة التي أدت إلى وجودها وفاقمت من الوضع الراهن، وفتحت أبواب العالم الخارجي للحوثيين والتواصل معهم، وكان يُفترض أن لا يتم منح الميليشيا هذه النافذة التي ساهمت بشكل كبير في تثبيت مخالبها في العاصمة صنعاء وسهلت تواصلها مع العديد من الجهات والمنظمات الخارجية، وهذا خطأ وقع فيه التحالف، قد يكون هذا الخطأ متعمد ربما، وكان يُفترض أن يكون هناك تعاون إقليمي ودولي وثيق لعزل الحوثي وايقاف مصادر تمويله ونقاط القوة الخارجية التي يستند عليها، والحقيقة أن حسابات الحوثيين لم تخب حتى الآن، فهم مَدينين بالفضل الكبير للمباحثات والمشاورات والمفاوضات في تقبلهم دولياً ولو كان هذا القبول يأتي من بعض الأنظمة على استحياء.
يُدرك المجتمع الدولي والتحالف العربي بأن أي مفاوضات أو مباحثات سلام مع ميليشيا الحوثي مضيعة للوقت وبأن الحوثي يتعامل مع المفاوضات كجولة استراحة يُعيد فيها ترتيب جبهته الداخلية، ولذلك نقول بأن أي مباحثات تجري الآن مع الحوثي هي في حقيقة الأمر شرعنة له، وكلما كان سقوطه أقرب أعادته المباحثات لمربع القوة والجاهزية والترتيب.
إن أي مباحثات تجري الآن هو فرض لواقع جديد ومؤلم، طالما والحوثي فيها طرف أساسي في الحكم وباقي المكونات مجرد هامش في هذه التركيبة أو المعادلة السياسية الغير منصفة، وكأن الأمر هو رص عدد بجانب الحوثي لإعطاء العملية السياسية صبغة شرعية أمام الداخل والخارج، إذاً نحن أمام ولادة عهد جديد سيكون الدم فيه الحبر الذي سيدون الأخبار العاجلة وعدد الوفيات.
ما عجزت عنه مفاوضات الكويت وجنيف وستوكهولم لن تأتي به مفاوضات أو مشاورات مسقط، المشكلة ليست في المباحثات بل في الكيفية التي يُدار بها طرفي المباحثات، يُصر التحالف على غلق ملف الحرب في اليمن بأي ثمن وأياً كانت النتيجة فهي لا تهمه، المهم أن ترفع الرياض عن كاهلها هَم الحرب وتنأى بنفسها عن كل ما يحدث على الأرض.
إن فرض السلام في اليمن بحسابات الأطراف الخارجية وبهذه الكيفية المُغامرة، تكاد تكون نتائجها معدومة وأضرارها كثيرة وعديدة، خاصة وأنها تجري بدون مشاركة غالبية الأحزاب السياسية الوطنية، حيثُ تُشير جميع التجارب الناجحة في القضاء على الجماعات الدينية المُتطرفة إلى ضرورة قيادة وتولى الأحزاب السياسية المعتدلة لهذه الحرب، سواء كانت حرب فكرية أو حرب سياسية حتى يكتب لهذه الحرب النجاح، وهذه نقطة في غاية الأهمية يجب الأخذ بها وعدم تجاهلها، لأن ذلك سيُساهم في تأخير وتأجيل حسم جميع المباحثات والمشاورات كما هو حاصل اليوم، ويعود أسباب هذا الفشل الاعتماد على شخصيات دخيلة على السياسة ينقصها الخبرة والكاريزما وعدم قدرتها على فرض حضورها وشخصيتها بداخل مضمار السياسة.
إن عدم التعامل مع جذور المشكلة في اليمن كجزء من استراتيجية شاملة، ساهم في عدم تحقيق المطالب المرجوة، وأظهر عدم وجود رغبة جادة لدى المجتمع الدولي والاقليم في ايجاد حل سياسي دائم للصراع في اليمن، وهذا ما جعل من فرص نجاح التحالف تبدو عقيمة، بالإضافة إلى عدم تأهيل الشرعية في الخطاب السياسي، وعجزها عن إدارة علاقاتها مع حلفائها، كل ذلك قادنا إلى إخفاقات عديدة وحول الجميع بما فيهم الاقليم إلى وضعية الدفاع والبحث عن سلام يُشبه قنبلة موقوتة.
عادت ميليشيا الحوثي للواجهة للمرة الألف للحديث بأنها أصبحت طرفاً أساسياً في المباحثات من جديد، ثم تحرك وفدها في الأسابيع الماضية لبعض السفارات في دول العالم وبدعم إقليمي لمد خيوطها باتجاه صنعاء، ومرة أخرى يبدو أن اللعب على كسب الوقت أتى ثماره بالنسبة لميليشيا الحوثي، معولة في الوقت ذاته إصرارها على عدم التخلي عن سياستها العدائية تجاه الداخل اليمني والمجتمع الدولي، ورفضها جميع الحلول التي طرحت من قبل المبعوث الأممي الأول جمال بن عمر مروراً بباقي المبعوثين، وإذا لم يعد أحد يتحدث عن ممارسة الضغط على هذه الميليشيا وإرغامها على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي والتوصيات الصادرة عن المبعوثين الأمميين لليمن، يُفضل على الأقل ارغامها التخفيف من لهجتها العنجهية وتحديها لليمنيين وللمجتمع الدولي الذي ينظر لكل هذا الغثاء الذي تراكم لسنين وجرف معه ألسنة الجميع وأيدي المجتمع الدولي التي وقفت مكتوفة دون معالجة الوضع الراهن.
قبل أشهر قليلة بدأ المشهد مختلفاً لوهلة، وتعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لضغط كبير للتدخل عسكرياً في البحر الأحمر، وما دفعها لذلك هو أن ميليشيا الحوثي بدأت تتمادى كثيراً باستهداف السفن التجارية في عرض البحر الأحمر، وبدلاً من استئناف العلمية العسكرية ضدها ذهبوا لعقد مباحثات معها في مسقط وكأنهم يكافئون المجرم على تأدية الدور المطلوب منه، وهنا جرى تجاهل تام لما ترتب عليه في البحر الأحمر، نتيجة لنهج سياسية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الجرائم التي يرتكبها الحوثي بشكل يومي بحق الجميع، ومن الخطأ القول بأن ذلك حدث دون علم مسبق للولايات المتحدة، بل حدث ذلك بعلمها وبتخطيط وتنسيق مسبق بينها وبين النظام الإيراني، للضغط على التحالف العربي وتسريع عملية مصالحة بين الرياض وطهران، لأن التحالف فشل في أن يُدرك جسامة ووحشية وخطورة الصراع الدائر في اليمن، وفوت على نفسه فرصة دعم المؤثرين الرسميين في الوقت المناسب.