من حذلقات علي الوردي
من حذلقات علي الوردي الكثيرة في “وعاظ السلاطين” أن علي بن أبي طالب لم يكن “خليفة” وإنما “ثائر”.
لقد استخدم لفظ “ثائر” بتفخيم أراد به التحسين والتعظيم رداً على تشكيك البعض في كفاءة علي وحنكته السياسية.
وقبل أن نعرف ما إن كان علي ثائراً أم خليفة،
يجب أن نؤكد أولاً على أننا لا نُسلِّم بأن الثورية صفة مدح بإطلاق ولا صفة ذم بإطلاق،
وثانياً على أن الثورة -بالمفهوم الاجتماعي والسياسي- ليست أبداً غاية لذاتها، وإنما هي طريق إلى شيء آخر، فكل ثوري مثلاً يهدف إلى انتزاع السلطة العامة وتبديل قانون بقانون وسياسة بسياسة وأحوال بأحوال.
من الثابت تاريخياً أن علي وافق على بيعته في المدينة كـ خليفة، أي أنه بويع حاكماً لا ثائراً، مع أنه بويع غالباً من جموع الثائرين الغوغاء الملطخة أيديهم بدم الخليفة الثالث عثمان.
والحاكم في مفتتح عهده يجعل من أولوياته فرض الاستقرار وإخماد نوازع الشغب والتمرد.
من أجل هذا تحديداً خاض علي حروبه الداخلية الخاسرة – خاسرة بالمعنى السياسي إجمالاً، وإن كان ربما كسب بعضها عسكرياً.
أي أنه كان يقاتل ضد من كانوا في نظره عصاة وخوارج على سلطته التي آمن بشرعيتها ومعه جماعة من أشياعه، ولهذا قال: “أيها الناس، إن أحق الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استُعتب فإن أبى قُوتل”.
واشتكى يوماً فقال: “إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وإنني اليوم لأشكو حيف رعيتي، كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة”.
وهذا يعني أن الخارجين عليه -ممن يعتبرهم رعاياه- هم بالأحرى من يصح وصفهم بالثوار، إن كانت الثورية صفة مدح!
أما هو فكان ثائراً على من؟ ثائر على رعاياه!
إلا إذا كان الوردي ضمنياً يعتبر علي شريكاً في الثورة -الفتنة- على عثمان، ومنها اكتسب صفة ثائر، فهذا شأن آخر!
فالوردي يقول في الكتاب نفسه: “مما تجدر الاشارة إليه أن قريشاً لم تبايع علياً. إذ لم يبايعه إلا الثوار الذين قتلوا عثمان. وهذه البيعة كانت بمثابة إجماع من الثوار على تسليم قيادة الثورة إلى علي”.
أنظروا:
قيادة الثورة وليس الدولة. العُقدة القديمة نفسها!
أما نحن فنرى أن علي خليفة لم تستتب له الأمور كما استتبت لمن قبله، لأسباب متعددة لا مجال لحصرها الآن، رغم كل محاولاته في سبيل ذلك.
وكونها لم تستتب له فهذا لا يعني أن نردد مع الوردي أن علي كان ثائراً عن وعي واختيار مسبق، وأنه لم يكن خليفة أو لم يحاول أن يكون كذلك!
ما فعله الوردي -وأمثاله- مع سيرة علي هو إنتاج تأويلات عصرية مبطَّنة بالتحيُّز تبعاً للهوى والرغبة، توحي إلى القارىء كما لو أن منزلة الثائر الأخلاقية هي لزوماً أرفع من منزلة الخليفة،
ولهذا نفى الخلافة عن علي بدم بارد وأثبت له الثورية مدحاً وتعظيماً وتنزيهاً!
ولو جاريناه في منهجه لاعتبرنا كل حالة تاريخية من حالات الفشل في حيازة وتثبيت السلطة -وبلا استثناء- قيمة جليلة ترمز إلى الفضيلة والخير،
فيصبح الخير كل الخير في العمل الذي يعجز به صاحبه عن إصابة غرضه، والشر كل الشر في العمل الذي ينجح به صاحبه في إصابة غرضه.
وهذا قطعاً ما لا نقبله بأي حال.
الوردي في كتابات أخرى يضيف إلى علي منقبة كبرى هي “العدل الصارم”.
ليست المشكلة هنا.
المشكلة أنه جاء بدليل على هذه المنقبة هو من أغرب الأدلة على الإطلاق:
افتراق المسلمين في عهد علي هو الدليل على عدله الصارم، زاعماً أن من طبيعة “العدل الصارم” تفريق الجماعة وتشتيت شملها!
يا إله السماوات.
هذا هو الوجه المظلم لما كان يسميه نيتشه بـ “القلب الشامل لكل القيم”: التبديل والتحويل المريع للقيم والأقيسة، رفعاً وخفضاً، تقديماً وتأخيراً،
قلب المعاني رأساً على عقب، بخس الثمين من الأعمال والأقوال والأحوال وتثمين البخس.. وهكذا.
لم أكن أعلم أن الفُرقة من دلائل العظمة، أو أن العدل سبيل إلى الفُرقة.
ثم كيف لثائر أن يكون عادلاً أو جائراً، فلا يقال هذا إلا عن سلطان وإمام قائم بالأمر والنهي؟!
- من صفحة الكاتب في فيس بوك.