من مذكرات البردوني
قرأت في مذكرات البردوني، والتي نشرها على غير نظام في سلسلة مقالات على صفحات 26 سبتمبر في الفترة الأخيرة من حياته، الفقرة التالية:
“ومن المؤسف أن الزبيري النقي الوطنية لم يسلم من تأثير الجدل العرقي، إذ كان الوطن مدار أفكاره ومنطلق اتجاهه، ولم يسلم كلياً من الهذيان العرقي، ولعل في ذلك إرضاء لمن حول الزبيري.
لهذا لاحت على أقلّ شعره مسحة قحطانية كما في ميميته الشهيرة:
أبناء قحطان عبيدٌ بعدما
عبدتهمُ الزعماء والحكامُ
وهذا القياس على فراعنة مصر غير منطبق على ملوك سبأ وحمير، لأن فرعون تأله حين رأى تحته مصر بأنهارها وجناتها:
“أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون”. فالفرق بين الحميريين والفراعنة يشبه الفرق بين سد مأرب ونهر النيل”، (البردوني، “تبرج الخفايا”، ص511 و512).
انتهى كلام البردوني.
والحق أن البيت الذي استدل به لا ينم عن عرقية معيبة يحاول البردوني تنزيه الزبيري منها.
فليس لكل إشارة إلى قحطان والقحطانية دلالة عرقية انقسامية لزوماً، كيف لا والبردوني نفسه يقول في أشهر قصائده عن صنعاء بأنها:
حُبلى وفي بطنها قحطانُ أو كربُ.
ويمكن إيراد عدد من الأمثلة لو أردنا أن نستقصي في شعر البردوني “مسحة قحطانية”، كهذا البيت في قصيدة “الحُكم للشعب”:
نحن البلاد وسكان البلاد وما
فيها لنا، إننا السكان والسكنُ
فمن السهل تأويل الضمير “نحن” تأويلاً عرقياً قحطانياً كما فعل البردوني مع بيت الزبيري أعلاه.
وفي قصيدته الشهيرة “ذات يوم” عن ثورة 26 سبتمبر والتي مطلعها:
أفقنا على فجر يومٍ صبي
فيا ضحوات المُنى أطربي
نشعر وكأنه قد جرى فيها -عن قصد أو عن غير قصد- على النغمة الموسيقية للقصيدة المنسوبة زوراً إلى علي بن الفضل والتي مطلعها:
خذي الدف يا هذه واضربي
وغنّي هزارك ثم اطربي
تولّى نبيّ بني هاشم
وجاء نبي بني يعربِ
لكن لا ننسى أن للقحطانية بُعداً جغرافياً غير البُعد النَّسَبي العرقي، فالشائع أن جنوب شبه الجزيرة العربية موطن قحطان.
ومن ثَمّ فكل من يتخذ الجنوب موطناً يكون قحطانياً بالسكن ولو كان عدنانياً بالنَّسب.
الأمر الآخر، وحتى لو وافقنا على أن الزبيري أراد المدلول العرقي النَّسَبي للاسم قحطان، فليس المقابل لـ “أبناء قحطان” في القصيدة “أبناء عدنان” بالمعنى العرقي أو حتى الجغرافي (شمال الجزيرة)، بل ولا حتى الهاشميين على وجه الحصر، وإنما الطبقة الزيدية الإمامية الحاكمة في ذلك الوقت، وهي وريثة منحى تاريخي، سياسي وثقافي ومذهبي، يقع النسب العلوي الفاطمي (العدناني) في صميم بنيته وتكوينه أصلاً وفرعاً، قولاً وعملاً،
ولولا هذا لما كانت هناك ضرورة أبداً تستدعي ذكر قحطان والقحطانية لا على سبيل الموافقة ولا على سبيل الاعتراض.
ولا أظن البردوني أحرص على الوحدة الوطنية من الزبيري، والاشمئزاز من كل دعوة عنصرية عرقية انقسامية.
ولهذا نلاحظ حرص الزبيري في ذات القصيدة على تنزيه “هاشم” كـ نَسَب من خطايا الطبقة المنسوبة إليه:
ما كان ضرهمُ وهم من هاشمٍ
لو أنهم مثل الجدود كرامُ
لكنها الأخلاق أرزاق بها
يجري القضا وتُقَدّر الأقسامُ
على أن البردوني محقٌّ في قوله أن القياس على فراعنة مصر خاطىء، لأن الفرق بين اليمن ومصر كالفرق بين سد مأرب ونهر النيل، وهذا الفارق هو مصدر الاختلاف بين الحميريين والفراعنة.
وهكذا فالتفاوت الهائل بين البلدين يشير إلى التفاوت في إمكانية أن تكون فرعوناً، فـ “الفرعنة” -بمعنى الحكم الشمولي، أو الطغيان- هي بالدرجة الأولى إمكانية طبيعية (جغرافية وبيئية).
ومع ذلك،
فحديث الزبيري عن “العبودية” في قصيدة ثورية ليس باطلاً كل البطلان.
ورغم أنه شعر، ورغم أن القول الشعري محمول على المبالغة والمجاز، إلا أن كل إمام زيدي -بل كل ملك وكل سلطان- لديه هذا الطموح بأن يؤلَّه وأن يكون فرعوناً فيحمل ما استطاع من الناس على عبادته، رغبة ورهبة، ويحصل من ذلك على نصيب من “الفرعنة” يزيد حيناً وينقص حيناً.
وإذا لم يبلغ الأئمة من الفرعنة غايتها القصوى، فليس لزهدٍ فيها، وإنما لامتناع ذلك بحكم ظروف اليمن المتباينة عن ظروف مصر تباين سد مأرب عن نهر النيل.
وإلا أليس البردوني هو من ألمح إلى تأليه الأئمة لأنفسهم في مطولته التي يرثي فيها الزبيري “حكاية سنين”:
كانوا ملوكاً ظلُّهم
حَرمٌ ورُقيتهم حمايه
فلحومنا لخيولهم
مرعىً وأعظُمنا سِقايه
وبيادرٌ تُعطيهمُ
حبّات أعيُنِنا جبايه
واللهُ والإسلام في
أبواقهم بعض الدّعايه
لا نشك في دوافع البردوني الحميدة وهو يشجب النعرات الإنقسامية، عرقية أو جغرافية أو طائفية، ونشاطره هذا الموقف الوطني والإنساني بلا مواربة وبدون قيد أو شرط.
وإنه لمن المناسب أن ننهي هذا المقال بفقرة من مذكرات البردوني نفسها التي نقلنا منها فقرة الافتتاح:
“وكانت فكرة (هَيْشَمَة) دولة أو ثورة غير مضمونة العواقب، لأن اليمنيين من كل عرق متصافون متآخون، وهم الذين رقوا بالأشراف، كما كان الأئمة يدعون المواطنين بـ” الأنصار” بغض النظر عن النسب، وبهذا لم تتبدَّ لليمن خصوصية منحدرة من العرقية.
فالشعوب العربية كلها من نسل عدنان وقحطان بدون تفاضل عرقي، ولا للفكرة العرقية أي دور في الاعتماد على نسب كوسيلة حكم، بعد أن توهجت الوطنية في ظل القومية، وتحت راية وحدة المسلمين وتحت مبدأ التحرر من الاستعمار بعد التحرر من الأتراك”