الطواف، مدار كوتي
هي دروسُ إبراهيمَ العظيمةِ في تأكيدِ معنى التسليمِ تتوالى في المخاضِ الرِّساليّ الطويلِ،تعاوِدُ التجسُّدَ في مكةَ من خلال سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ الأوائل. مُطلقُا لإيمانِ والتسليمِ, مطلقُ الفداءِ والتضحية. حيثُ يكونُ الحقُّ الأسمى أعلى من الذاتِ, أكبرَ من الحياةِ ومن كل شيء. وحيثُ يكونُ سلبُهُ وحرمانُنا منهُ هو الموتُ عينُه. وفي سبيلِ هذا الحقِّ الناظِمِ للوجودِ تهونُ العذاباتُ.. اللذة حينها تعلُو على كل الآلام.
يبدو الخليلُ عليهِ السلامُ في كلِّ الأنحاءِ والأركانْ.. يتدفَّقُ منْ كلِّ صوبٍ, يُضيءُ الحنايا والزوايا, يُشرِقُ في الطَّوافِ والهُتافِ.. يتقدمنا، يدلُنا على أمْكِنَتِنا من البيتِ ومَكانَتِنا من ربِّ البيت.. كلُّ ذرةٍ في رحابِ الكعبةِ تُشيرُ إليهِ بحنانٍ وامتنانْ.. كلُّ شبرٍ يشرق بالجلالِ والمهابةِ، كل مساحة تعبق بالرائحة العطرة.. هو ذا في مقامه الطهورِ صلاةٌ حيةٌ، تعانِقُ روحَهُ مُذ أمَرَنا الله: “واتَّخِذُوْا من مَّقامِ إبراهيمَ مُصلَّى”..
وأنتَ في هذا الموجِ الهادرِ في محيطِ الكعبةِ, تتترآءى الحركةُ الدائريةُ كما لو أنها حركةُ أجرامٍ وكواكبَ في مدارٍ كونيٍ هائلٍ, تُمثِّلُ الكعبةُ فيهِ مركزَ الجاذبية.. يتخطَّفُك الطوافُ وكلما حدَّقتَ من عُلوٍّ , لاحَ المشهدُ مهيباً جليلاً ساحراً، آسراً للعيونِ والنفوسِ، ترى فيه مقامَ الشهادةِ ومجدَ الشهود..
سلامٌ عليك وأنت تستلمُ الركنَ اليمانيَّ بكلِّ جوارحِك.. سلامٌ عليك وأنت تقبّلُ الحَجَرَ الأسودَ بملء عينيك، وبشفتي قلبِك.. إذا استبَدَّ الزّحامُ يشدُّك أثرُ الحُب، لا اعتقاد بتأثير، مُتابِعاً كبارَ المحبين, مردداً بروح عمر بهاء الدين الأميري ”
(الحَجَرُ الأسودُ قبَّلتُهُ بشفتي قلبي وكلي ولَهٌ .. لا لاعتقادي أنه نافعٌ بل لهُيامي بالذي قبَّلهْ) ..
وما بين المقام وحِجرِ إسماعيلْ, تستيقظُ اللحظاتُ الأولى من عمرنا المنساب للبيتِ المعمورِ..
هو ذا سيدُنا إبراهيمُ يرفعُ قواعدَ البيتِ, ومعه إسماعيل.. وهذا أنت تهطُلُ من دعائِهِما المرفوعِ لحظةَ التأسيس: “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”.