الفطنة مزيَّة السياسي أم الحكمة؟
ورأيه أن السياسة تقتضي الفطنة لا الحكمة.
وهو يعرِّف الحكمة بأنها “العقل والعلم اللذان يكونان في الأمور التي هي شريفة جداً بطبعها، أعني التي هي في غاية السمو”. أظنه يقصد مثالية، وقد يسميها إلهية.
يضيف أرسطو (توفي 322 قبل الميلاد): “فأفلاطون وسقراط حكيمان، ولا نقول أنهما فطنان”، والحكيم لا يطلب الخيرات الإنسانية النافعة بل الخيرات الإلهية.
أما الفطنة فتتعلق بالخيرات الإنسانية، بالمنافع، ولهذا فالفطنة ألصق بفن السياسة من الحكمة، لأن السياسي يشتغل بالنافع من الأفعال.
يقول: “والفطن المتروي “المشار” إليه بالمعنى الحقيقي، هو الذي يتبين بالتفكر، ما هو أحسن للإنسان من الأفعال ويخرجه للوجود.
وليست الفطنة الكاملة هي معرفة الكليات من الأمور النافعة وحسب، وتحقيقها، بل ينبغي على ذي الفطنة أن يعرف الأمور الكلية والجزئية معاً. من أجل أن هذه المعرفة هي من نمط الفعل والفعل إنما يتعلق بالأمور الجزئية. ولذلك يوجد بعض الناس أقل معرفة في صناعة الطب مثلا، وهم أفضل فعلا من الذين هم أكثر معرفة في الكليات. وهذا حال من كانت تجاربهم المتراكمة أكثر من علمهم. لكن من كان عنده العلم الكلي دون الجزئي، فإنه لا يقدر أن يفعل به شيئاً”. (ابن رشد، تلخيص أخلاق أرسطو إلى نيقوماخوس،ص263 وما بعدها).
ويقول أيضاً: “وليست الفطنة علماً. لأن التفطن هو إدراك الشيء المفعول. والمفعول مضاد بالوضع للمعقول. لأن العقل لا يدرك الأشياء الجزئية المفعولة. وأما الفطنة فهي إدراك الأشياء المحسوسة. وليس المقصود بالمحسوسة ما يدركه الحس، بل المقصود بها، “الملكة التي تحس بأن أبسط الأشكال هو الشكل ذو الزوايا الثلاث وهو وهمي”. “لكن الوهمي الذي يظهر في المفعول، هو أقرب إلى الحس من الوهمي الذي هو في الرياضيات”، (ص268).
ويصل أرسطو إلى القول بأنه أحرى بمن يسوسون المدينة أن يفعلوا ذلك بوسيلة أخرى غير العلم النظري، “وأحرى أن يفعلوا ذلك بالتجربة من أن يفعلوا ذلك بالعلم والفن”، لأن “اختيار الفعل الفاضل في صناعة صناعة لا يكون إلا بأحد أمرين: أولهما المعرفة بعلم الشيء نفسه، والثاني التجربة”، (ابن رشد، تلخيص أخلاق أرسطو إلى نيقوماخوس، ص473).
أما تحصيل علم السياسة في نظر الفارابي -الذي يُلقَّب بـ”المعلم الثاني” على اعتبار أن أرسطو “المعلم الأول”- إنما يأتي من التأمل في أحوال وأعمال الناس، فهو يقول: “إِن أنفع الأمور التي يسلكها المرء فِي استجلاب علم السياسة وغيره من العلوم أَن يتَأَمَّل أَحْوَال النَّاس وأعمالهم ومتصرفاتهم مَا شَهِدَهَا وَمَا غاب عنها مِمَّا سَمعه وتناهى إِلَيْهِ منها وَأَن يمعن النّظر فيها ويميز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لَهُم منها ثمَّ ليجتهد فِي التَّمَسُّك بمحاسنها لينال من مَنَافِعهَا مثل ما نالوا وفي التَّحَرُّز والاجتناب من مساوئها ليأمن من مضارها وَيسلم من غوائلها مثل مَا سلمُوا”، (الفارابي، السياسة المدنية).
وفي كتاب آخر يعرِّف الفارابي العقل العملي بأنه “قوة بها يحصل للإنسان، عن كثرة تجارب الأمور وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة، مقدمات يمكنه بها الوقوف على ما ينبغي أن يؤثَر أو يُجتنَب في شيءٍ من الأمور التي فِعلَها إلينا [أي من أفعال الإرادة]”، (الفارابي، فصول مُنتزعة).
وبعد هذا، لا يعود من المفاجئ أن نجد في مقدمة ابن خلدون، وهو المتأخر زمناً، ما يقرب من آراء المعلِّمَين الأول والثاني.
فقد وضع ابن خلدون فصلاً بعنوان “في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها”، وأما السبب في كون هؤلاء أبعد عن السياسة، فهو “أنهم معتادون النظر الفكري، والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن أموراً عامة كلية ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس، ويطبقون من بعد ذلك الكلّي على الخارجيات. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن”.
ويقول: “والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج [الواقع] وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية، ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها”، (المقدمة، صفحة 359 ج2).
وقد استوحى المؤرخ والمفكّر المغربي عبدالله العروي على الأرجح وجهة نظر ابن خلدون، عندما كتب قائلاً: “لا فيلسوف ولا متكلِّم ولا شاعر أبداً على رأس الدولة. كلما وأينما حصل ذلك عمَّت الفوضى ونزل الخراب”، (العروي، السُنَّة والإصلاح، ص7).
الباحث الانجليزي أرنست غيلنر لاحظ تقليل ابن خلدون من شأن التعليم الفلسفي الجيّد كوسيلة لإعداد المرء للسلطة، بل إنه ذهب إلى أن التعليم المبالغ فيه يضعف الفرد سياسياً، فهو يقول في المقدمة: “الذين يعانون الأحكام وملَكَتها من لدُن مرباهم في التأديب والتعليم والصنائع والديانات يُنقص ذلك من بأسهم كثيراً، ولا يكادون يدفعون عن نفسهم عاديَة بوجهٍ من الوجوه”.
وفي هذا القول وما سبقه من أقوال أرسطو تعارض لا لبس فيه مع الوصية الشهيرة لأفلاطون في “الجمهورية” باستلام الفلاسفة سدة الحكم. (وأما الفارابي فيقول بتولي الحكيم الفيلسوف زمام الأمر في المدينة الفاضلة).
وأخيراً، فإن آراء أرسطو وابن خلدون والعروي، تذكِّر بمقطع شعري لشكسبير جاء على لسان الأمير هاملت:
“ألا هكذا يجعل التأمُّل (التفكير) منا جبناء جميعاً،
وما في العزم من لون أصيل يكتسي
بصفرة عليلة من التوجّس والقلق”.
*نقلا عن نيوز يمن.